التنافر المعرفي, نظرية فستنجر

تعد نظرية التنافر المعرفي واحدة من بين أهم نظريات علم النفس الاجتماعي والتي أتبثت حقيقة كيف أننا كبشر نميل لعقلنة اللامعقول من أجل الشعور بالرضى عند حدوث تنافر بين معتقداتنا وتصرفاتنا, بل أننا ننتهج هذا السلوك لاشعوريا في حياتنا اليومية.
صاغ النظرية عالم النفس الاجتماعي ليون فستنجر (1919 - 1989) بخمسينيات القرن الماضي, ولإتباث صحة نظريته ابتكر تجربة مثيرة أجراها على بعض الطلبة تفاصيلها كالتالي:

 قسم مجموعة من الطلبة لثلاث مجموعات, طلب منهم إجراء مهمة جد مملة تمتد ساعة من الزمن, حيث على الطالب أن يدير بعض الأعمدة باتجاه عقارب الساعة, ولم يكن الطالب يعرف الهدف من هذه التجربة مما زاد من مللها.
تجربة التنافر المعرفي
بعد إتمام المهمة طلب فستنجر من المجموعة الأولى أن يتجهوا لاحدى الغرف لملئ استمارة بها أسئلة حول المهمة التي أنجزوها, في حين طلب من المجموعة الثانية أن يكذبوا على بقية زملائهم الطلبة بقاعة الانتظار وإخبارهم أن التجربة جد ممتعة مقابل مدهم بدولار واحد (دولار بذلك الزمان يعادل حوالي 8 دولارات بزماننا هذا), أما آخر مجموعة فقد طُلب منهم الكذب على زملائهم وإخبارهم أن التجربة ممتعة مقابل 20 دولار (حوالي 160 دولارا).
 بعد الإنتهاء من كل التجربة تم إجراء مقابلة مع الطلبة من كل مجموعة من طرف الأستاذ وطرح أسئلة حول مدى استمتاعهم بالمهمة ومدى اعتقادهم أنها تخدم العلم, وذلك بوضع علامة من 5 إلى -5 حيث أعلى درجة تمثل الاستمتاع الكامل بالتجربة, في حين أدنى درجة تمثل أقصى درجات الملل, فكانت نتائج المقابلة كالتالي:
نتائج تجربة التنافر المعرفي
ماذا لاحظت في نتائج المقابلة؟ ألا يبدو لك أن نتائجها عزيزي القارئ نوعا ما غريبة؟ لماذا صرّحت مجموعة الدولار الواحد بأن التجربة ممتعة ومهمة للعلم؟ في حين أن مجموعة عشرين دولار صرّحت نفس تصريحات المجموعة التي لم تنل شيئا بأن التجربة مملة؟
بالنسبة لفستنجر وفريقه فإن النتائج كانت متوقعة, ذلك أن المجموعة الأولى والتي لم تنل شيئا هي مجموعة شاهدة يمكن قياس النتائج عن طريقها فهي الأصدق بين الثلاث لأنها لم تكسب شيئا وبالتالي فهي تجيب إجابة صريحة بأن التجربة مملة, في حين أن مجموعة الدولار الواحد اضطرت للكذب على الزملاء مقابل دولار واحد فقط وهذا بالنسبة لها غير مبرر للكذب على بقية الطلبة, لذا تولد ضغط نفسي وتنافر لدى هذه المجموعة لأن الكذب سلوك مذموم فاضطروا لتغيير معتقدهم في أذهانهم بأن التجربة غير مملة بل ممتعة لكي يشعروا بالارتياح وأنهم لم يكذبوا على الطلبة بل قالوا لهم الحقيقة. أي أن مجموعة الدولار الواحد في واقع الأمر يكذبون على أنفسهم لاشعوريا ويقنعون أنفسهم أن التجربة ممتعة... بينما مجموعة العشرين دولار لها مبرر قوي للكذب ألا وهو المال الوفير وبالتالي بالنسبة لهم الكذب على زملائهم مبرر مقابل عشرين دولار, ولم تكن لديهم حاجة للكذب على أنفسهم بأن التجربة ممتعة بل هي بالنسبة لهم تبقى مملة.
نظرية التنافر المعرفي
بنى فستنجر نظرية التنافر المعرفي على ثلاث قواعد أساسية والمتبثة من خلال التجربة ألا وهي:
1- البشر جد حساسون اتجاه التناقض بين السلوك والمعتقد:
يمكننا إدراك التناقض الذي يحدث في حياتنا بين معتقداتنا وسلوكنا بسهولة, والتمييز بين ما نعتقده صوابا وغير صائب, وبالتالي حدوث تناقض يؤدي لتنافر معرفي وانزعاج وعدم ارتياح, فنسعى لاشعوريا للموازنة بين السلوك والمعتقد لإزالة التنافر.

2- إدراك التناقض يؤدي للتنافر ومحاولة إيجاد حل لهذا التنافر:
نعيش في حياتنا تناقضات عدة بين معتقادتنا وسلوكاتنا, قد يدخن الإنسان وهو مدرك أن التدخين مضر للصحة مثلا, أو يسهر الليل وهو يعلم مضار السهر, أو غيرها من الأمثلة...
نحاول طول الوقت إيجاد حلول لهذه التنافرات المعرفية لنشعر بالارتياح, لذا قد يكذب ساهر الليل على نفسه ويخبرها أن الساهرين ليلا أشد ذكاء, وأن سهره هو نتيجة عبقريته الفذة, أو غيرها من الأكاذيب لحل معضلة التنافر المعرفي...

3- نحن نلجأ لثلاث مستويات لحل هذا التنافر:
- تغيير المعتقد: وهي أسهل طريقة لحل التنافر, فإذا كان الشخص بوسط اجتماعي يحرّم الموسيقى في حين ينصت هو لها فقد يطمئن للتفسيرات التي تقول أن الموسيقى ليست حراما, أي أنه سيغير معتقده بما يتناسب وسلوكه...(هذا مجرد مثال ولا ينطبق على كل حالة) نحن نغير معتقداتنا مع مرور الزمن في أمور شتى بما يتناسب وسلوكاتنا, الأمر يطال أتفه التفاصيل, كأن يغير الإنسان اعتقاده بأن السهر مضر مثلا أو إفراط تناول السكريات أو أي معتقد مهما كان...

- تغيير السلوك: وهو أصعب من تغيير المعتقد لارتباط السلوك بالمحفزات التي لا نستطيع مقاومتها, لايمكن للمدخن الاقلاع بسهولة عن التدخين, لايمكن للكسول أن يتحول لمجد, لذا قد يغير معتقده بأن الدراسة أصلا بلا أي فائدة فهذا أسهل من فتح كتاب.

- تغيير الرؤية: أو وجهة النظر أو باختصار المراوغة والكذب على الذات كما حدث بالتجربة, حيث كان أمام مجموعة الدولار الواحد ثلاث اختيارات, إما تغيير معتقدهم بأن الكذب مذموم ويصير الكذب سلوكا رائعا باعتقادهم وهذا مستحيل, أو تغيير السلوك ورفض الدولار مقابل الكذب على الزملاء, وقد استحال عليهم الأمر أيضا لأن المال لا يقاوم, لذا بقي أمامهم تغيير رؤيتهم بشكل كلي واعتبار التجربة ممتعة وبالتالي فهم لم يكذبوا على الزملاء منذ البداية لأن التجربة ممتعة.
أليس هذا حلا رائعا؟
المشكلة هنا أننا نفعل هذا لاشعوريا وبلا تفكير!!
أي أن الطلبة مقتنعون أن التجربة ممتعة, وهنا مكمن الخطورة.
لذا تجد شخصا يحب فنانا أو سياسيا قد ينزهه من أي خطأ فإذا سرق السياسي المال, أو لكم الفنان معجبة, قد يبحث له عن مبرر لتصرفه لاشعوريا وعن اقتناع بصحة المبرر, فيقول أن السياسي روبن هود سرق المال من أجل الفقراء, وأن الفنان لكم المعجبة لأنها تستحق اللكم.

 نحن جميعنا معرضون للتنافر المعرفي طوال الوقت, أنا وأنت عزيزي القارئ يقودنا عقلنا كثيرا لاشعوريا ولا نستطيع معرفة متى يحدث ذلك لأنه يحدث دائما, هل حاولت اكتشاف مرات حدوث ذلك لك؟ صعب جدا.
في واقع الأمر فإن هذا السلوك الذي ننتهجه للحد من التنافر المعرفي وإن كان يبدو مضحكا إلا أنه مهم جدا لنا كي نبقى بصحة نفسية جيدة, فأساس النظرة التفاؤلية هو إيجاد حل للتنافر المعرفي, فيمكن اعتبار مجموعة الدولار الواحد مجموعة متفائلة إن نحن قارناها بالمجموعيتن الأخرتين.

تقابل نظرية التنافر المعرفي بعلم النفس الاجتماعي نظرية ميكانيزمات الدفاع النفسي بعلم النفس التحليلي لدى فرويد.
اقرأ عن آليات الدفاع النفسي.

تعليقات

  1. مقال مشوق، يجب أن أعود للروابط الأخرى لكي أفهم جيدًا. شكرا لك على المجهود سيد جواد.

    ردحذف
  2. جميل ومفيد حقا، شكرا لك

    ردحذف