مثقفوا القهوة, السجائر والحشيش

لا أستصيغ مذاق القهوة وأفضل الشاي بالنعناع, ولا أدري إن كان هذا سيقلل من شأن رومانسيتي.
فالرومانسية هذه الأيام صارت مقترنة بمدى عشقك للقهوة, وفكرك بعدد السجائر التي تدخنها.
أتأمل مليا في صور الشعراء والأدباء وهم يسندون بأصابعهم الرشيقة جبينهم حاملين بين السبابة والوسطى سيجارة مشتعلة, وأمامهم طاولة زجاجية أنيقة مع كوب قهوة.

لكن عندما أفكر في موضوع ما فإنني لا أتخذ هذه الوضعية الكلاسيكية ولا أدخن السجائر ولا أشرب القهوة, بل قد أتأمل نسيج العنكبوت بركن الغرفة أمامي وأنا أفكر في قضايا الأمة العربية أو ألعب لعبة فلاش سخيفة للمرة الألف وأنا أتدبر في قضية كونية أو حتى أكون بالحمام.
ولا تقل لي أنك لا تفكر وأنت بالحمام! صحيح أن الأمر لا يبدو رومانسيا ولم يسبق لكاتب كبير مبدع أن خط لنا عملا أدبيا بعنوان "أفكار من وحي المرحاض", ولكنه الواقع للأسف, اعذرني فالواقع ليس بتلك الرومانسية يا عزيزي.
لا أحد من أولائك الشعراء والأدباء والمفكرين يتخذ وضعية من الوضعيات للتدبر.
هو يفكر أثناء الأكل وقبل النوم وبالحمام وبالسيارة, ولا يجلس واضعا رجلا على رجل عندما يقرر أن يفكر, لأن لا أحد يقرر التفكير فالأفكار تأتي دون استئذان.
صور ممتهني حرفة الثقافة تشبه صور السيلفي للمراهقات, فهن يحاولن إبراز جمالهن وسحرهن بشفاه وجه البطة, في حين يجلس حرفي الثقافة جلسة تصوير مطولة متكلفة من أجل إلتقاط صور للتاريخ وهو ينظر أمامه متجاهلا المصور كي تبدو الصورة أكثر جدية وتدبرا. (صورني وأنا أتظاهر أنني غير منتبه).

الكتابة المستمرة عن عشق القهوة لا تجعل منك مثقفا ولا مفكرا ولا شيئا بالمرة, فالقهوة ليست شيئا آخر غير مشروب ساخن ظهر بعد ظهور أهم الفلسفات والثقافات والحضارات والاكتشافات, ولم نسمع أن أحدهم كان يشرب القهوة أو يتغزل بها كما يفعل جل مثقفي كتب الكيلو اليوم المتناثرة أعمالهم هنا وهناك على قارعة مواقع التواصل الاجتماعي, وكأنها مشروب سحري ارتشافه يجعل القلم ينساب وحده من بين الأصابع.

يمكنك أن تقرأ كتابا وأنت تحتسي العصير, وأنت تتناول الحلوى.
يمكنك أن تفعل ذلك وأنت لا تتناول شيئا بالمرة, وأنت صائم وأنت نائم...لقد كرهت القهوة من خلال كتابات المتثاقفين.
يمكنك أن تكتب الشعر دون الحديث عن الحبيبة وعن الخمر أيضا, لقد صار تشبيه كل شيء في الأشعار بالخمر وأجساد النساء مبتذلا, على رسلكم يا شعراء الخمرة ويا كتاب القهوة, حاولوا الإبداع وابحثوا عن مشروب آخر لتكتبوا عنه, اكتبوا عن الليمونادا عن عصير المواد الحافظة والمسرطنة, عن عصير الماء الملون والكثير من السكر...هناك مشروبات كثيرة حاولوا أن تجدوا شيئا آخر تكتبون عنه.

لست من مناهضي القهوة فأنا أعشق رائحتها ولست ضد أن تلهمك القهوة وأن تكتب عنها, لكن من فضلك لا تكتب عنها بشكل يومي لأننا فهمنا واستوعبنا جيدا أنك تحب القهوة وأنها محبوبتك وأنها ملهمتك, توقف عن التقاط صور لك مع كوب قهوة وكتاب, لست بحاجة للقهوة لتبرهن لنا أنك مثقف, ولست بحاجة لالتقاط الصور وأنت تحمل الكتاب أيضا.
لا داعي لهذا التنميط المستمر لأنه صار مبتذلا ومستهلكا.
أبدع أيها المثقف والتقط صورا لك وأنت تقرأ من لوحك الالكتروني كتابا الكترونيا مع كوب من العصير, صدقني هذا لن يقلل من منسوب ثقافتك, بل سيجعلك أكثر حداثة وتجاري واقعك المعاش فعلا, فأنت لا تعيش في نفس الزمن الذي عاشه محمود درويش وعباس العقاد, لا معنى من محاكاة زمن قد مضى على أنه واقعك الحالي.


من باب الإمعان في الثقافة صار البعض لا يتحدث عن السيجارة بل عن النيكوتين, لكي يبرهن لنا أنه جد مثقف باستبداله مصطلح السيجارة بالنيكوتين, لذا فقد قررت أن أؤلف رواية ستخرج عما قريب بعنوان: "خواطر من صميم الكوكايين", لأن هذا العنوان سيجلب قراء أكثر من قراء النيكوتين والكافيين, وسيرفع من مبيعات كتابي.
وهنا بعض الاقتباسات الحصرية من روايتي الجديدة:

- دعوني! فإني قد استبقت الزمن للأمام هرولة بلا أي زاد ولا حبيبة (ضروري أحشر الحبيبة) دعوني وسيجارتي أدخنها بشراهة وأنا أحاول أن أقترف النسيان ذنبا لأنسى آلامي وبؤسي, فقد رفعت راية الاستسلام وهناً يا فنجان قهوتي.

- عالم متوحش يبتلعني في غياهبه بلا أي رحمة ليحولني نسخة مشوهة من نسخ أشباحه التي تسير استكانة, وأنا لا عزاء لي إلا في سيجارتي أفرغها من النيكوتين لأملأها بالكوكايين فأرتقي لأسمى علياء المزاج البشري, اعذروني يا سادة فأنا بذنبي أطهر من خبثكم.

- أين أنت يا حبيبتي والقهوة قد بردت فوق طاولة أحلامنا وأنا أعاني من الإدمان حبا وقد استعطفت النسيان لأذبح أمام عتبة دارك وقد حقنت نفسي بجرعة زائدة من الهروين, فاعتقلتني الشرطة وأخبرتهم أنني لن أكررها وعدت للبيت ونمت ولم أستيقظ أبدا, وأنا الآن أكتب لك من العالم الآخر يا حبيبتي.

إذا لم تفهم شيئا يا حبيبي القارئ من هذه الهلوسات فهذا لأن العنوان موضوع الكتابات متمحور حول المنبهات و المخدرات, لذا فأنا أحاول أن أهلوس كما يهلوسون في مواقع التواصل الاجتماعي فقط لا غير.
فهذه هي الموضة اليوم والأيام السابقة واللاحقة, القهوة والسجائر والمخدرات, عليك أن تستمع لأغاني الزمن الجميل باللون الأبيض والأسود وترتشف القهوة وتقرأ كتابا خاليا من أي معنى, رواية لا بداية ولا نهاية لها ولا أسلوب ولا لغة ولا موضوع إلا موضوع القهوة...
والآن أستسمحك لأذهب وأحضر فنجان قهوة لأجلس أفكر قليلا وحدي في غرفتي أنا وسيجارتي.

تعليقات

  1. رائع,,, أعجبني (لم يسبق لكاتب كبير مبدع أن خط لنا عملا أدبيا بعنوان "أفكار من وحي المرحاض", ولكنه الواقع للأسف)

    ردحذف
  2. ههه يبدو اني سأبدا بتأليف كتاب "أفكار من وحي المرحاض"فلدي الكثير منها 😂

    ردحذف
    الردود
    1. ههههههههههههههههه كلنا لدينا الكثير منها.
      فقط نجمّل ونحور الحقائق

      حذف