مجتمعات ثقافة العيب

لا تفعل هذا إنه عيب!
جملة نسمعها ونكررها باستمرار
ثقافة العار هي ثقافة مجتمعات عدة حول العالم ولها خصائصها التي تميزها عن مجتمعات ثقافة الشعور بالذنب.
صاغ المفهومين عالمة الانثروبولوجيا الأمريكية روث بندكت (1887-1948) بعد أن قارنت الثقافتين الأمريكية المبنية على الشعور بالذنب واليابانية المبنية على الشعور بالعار.
تم تقسيم المجتمعات إلى نمطين: ثقافة العار والشرف والتي تميز مجتمعات آسيا وبعضا من افريقيا ومن بينها دول الشرق الأوسط, وثقافة الشعور بالذنب والتي تميز المجتمعات الغربية.

لكل نمط خصائصه وسلبياته إلا أنك بإلقائك نظرة سريعة على تحليلات الانثروبولوجيين والنفسيين الغربيين فإنها جميعا مجمعة على أفضلية نموذج ثقافة الشعور بالذنب مقارنة بثقافة العار, وأنا من رأيي أنه نوع من أنواع التحيز.
لست هنا لأحذو حذوهم في المقارنة التفضيلية بين مجتمعاتنا ومجتمعاتهم ولكنني سأتحدث عن سلبيات ثقافة العار دون العروج بالحديث عن ثقافة الشعور بالذنب لأن ما يهمني هنا هو مجتمعي والقارئ الذي يعيش بهذا المجتمع...وبالتالي أنا لا أود أن تفهم من مقالي أنه تبجيل لثقافة الشعور بالذنب كما هي لدى الغرب.

أولا لنفهم خصائص كل نمط اجتماعي بهذه المقارنة البسيطة:


مجتمعات ثقافة العار
مجتمعات ثقافة الشعور بالذنب
وسط عائلي ضخم  (أفراد العائلة, القبيلة, العشيرة...)
وسط عائلي صغير, أسرة نووية (أب, أم, أبناء)
قيم المجتمع مستمدة من الدين, الأعراف والتقاليد
قيم المجتمع مستمدة من الأعراف
تغلب رقابة المجتمع والدين على الفرد في الحول دون الوقوع بالخطأ (رقابة خارجية)
تغلب رقابة الفرد لنفسه دون الوقوع بالخطأ (رقابة داخلية)
عند الوقوع بالخطأ: الشعور بالعار بعد افتضاح الأمر للآخرين
عند الوقوع بالخطأ: شعور الشخص بالذنب بينه وبين نفسه

لنفصل ما ورد بالجدول أكثر:
- من ناحية البنية فإن المجتمعات الغربية تتكون من أسر نووية تتكون من الأب والأم وأبنائهما يقطنون في منزل مستقل, ولا يكون على الأبناء القاصرين أي سلطة إلا من طرف الأبوين, ولا يشكل بقية أفراد الأسرة من أعمام وأخوال إلا دور السند أحيانا ولا تكون لهم أي علاقة ولادخل في شؤون الأسرة, بالمقابل فإن لمجتمعات العار وسط عائلي جد ضخم يعيش الأبناء في كنف الأب والأم واللذان بدورهما وفي كثير من الحالات يعيشان في كنف أسرة الأب, وحتى وإن لم تكن الأسرة تعيش في وسط عائلي ضخم فإن العلاقة معهم تكون وطيدة وتكون لهم سلطة على هذه الأسرة, فللجد والجدة سلطة على الأب والأم والأحفاد وكذا الأعمام والأخوال والقبيلة أو العشيرة في حالات المجتمعات التي تعرف نظام القبائل والعشائر وغيره...

- من ناحية القيم فإن المجتمعات الغربية تستمد قيمها مما هو متعارف عليه على أنه صواب أو خطأ, وتكون في الغالب لهذه القيم أصل في الدين (المسيحية) أو الفلسفات, وكمثال فإن التنمر اللفظي على الآخرين خطأ بالنسبة لهم لأن هذا ما هو متفق ومتعارف عليه, مضاجعة الأخ لأخته خطأ لأن العرف يقول ذلك والقانون لا يعاقب في أوربا مثلا الأخ والأخت إن قررا المعاشرة الجنسية.
قيم مجتمعات العار والشرف تكون مستمدة في العادة من الديانات المتبعة سواء كانت إسلاما أو مسيحية أو يهودية أو هندوسية أو غيرها من الأديان, بالإضافة للأعراف والتقاليد والتي تكون لها أحيانا سلطة أقوى من السلطة الدينية, إذ قد يرتكب الشخص ما يمكن اعتباره جرما في ديانته في حين هو تقليد وعرف جرى على ممارسته بمجتمعه, وفي الأحيان يكون لهذا العرف أصل ديني وفي أحيان أخرى تقليد مجتمعي لا علاقة له بالدين.
وكمثال فإن عقوق الوالدين بالإسلام جرم عظيم, إلا أن بر الوالدين لم يعد مجرد عبادة بل عرفا مجتمعيا لا يخرج عنه أحد, بل صار عن طريقه ترتكب المعاصي كعقوق الآباء للأبناء والذي هو أيضا بالاسلام غير جائز ولكن العرف لا يرى غضاضة في ارتكابه, فلا يجوز لدى بعض المجتمعات للابن الذي يظلمه والده ويؤذيه مثلا رفع دعوى قضائية ضده.

- من ناحية الرقابة فإنه بمجتمعات الشعور بالذنب الغربية تكون الرقابة ذاتية ولا تكون للمجتمع سلطة قوية على سلوكات الأفراد, وإن عدنا لمثال التنمر وزنى المحارم فإنه يتم تسجيل حالات عديدة لزنى محارم مصرح بها بين الإخوة لأن هؤلاء الإخوة لا يرون ما يمنعهم من فعل ذلك إن كانا على اقتناع تام بأن ما يفعلانه أمر غير خاطئ, فلا القانون يعاقب ولا سلطة المجتمع تتدخل وحتى الأبوين لا سلطة لهما على أبنائهما إن كانا قد بلغا السن القانوني, وبالتالي إن لم تمنعهما رقابتهما الذاتية وقناعاتهما الشخصية فإن لا شيء يمكن الحول دون تصرفهما.
بمجتمعات العار فحتى لو افترضنا اقتناع أخوين أن ما يفعلانه صواب فإنه من المستحيل لهما إعلان ذلك لأن رقابة المجتمع تكون شديدة ولا تتسامح مع أفعال تنتهك الدين والأعراف, بل يكون تدخل المجتمع قبل تدخل السلطات القانونية جد عنيف قد يؤذي للقتل أو في أهون الحالات النبذ التام من طرف المجتمع والشعور بالعار, وبالتالي فإن الجرم يتم ارتكابه بالخفاء بعيدا عن أعين رقابة المجتمع.

- من ناحية المشاعر فإن الشعور الغالب على مجتمعات ثقافة الشعور بالذنب عند الوقوع بالخطأ هو طبعا الشعور بالذنب في حين أن الشعور الغالب بمجتمعات ثقافة العار هو العار.
ولنضرب مثالا آخر فإن الرجل الغربي قد يضع أبويه المسنين بدار رعاية المسنين دون أن يكون تصرفه مبعثا للشعور بالعار وانعدام الشرف, لأن المجتمع لا يرى الأمر كذلك مطلقا, لكن قد يشعر هذا الابن بينه وبين نفسه بشعور بالذنب لأنه أبعد أبويه عنه ويبدأ بتقليب صوره رفقتهما.
في حين أنه بمجتمعات العار فإن ارسال الأبوين لدار رعاية المسنين هو تصرف يبعث الشعور بالعار أمام المجتمع الذي سيلومه وسيصمه بانعدام الشرف, فيضطر الرجل للإبقاء على والديه المسنين يعيشان تحت كنفه حتى وإن كان في داخله عاقا ويرغب بشدة التخلص منهما ولكنه يبقيهما لأن المجتمع سيصمه بالعار.
وهذا لا يعني أن الشعور بالذنب منعدم بمجتمعات العار أو أن العار منعدم بمجتمعات الشعور بالذنب ولكننا نتحدث هنا كتركيبة مجتمعية لها خصائص معينة تختلف عن الأخرى.


سلبيات مجتمعات ثقافة العار والعيب:
كما سبق وفسرت فإنني سأتحدث عن سلبيات ثقافة العار دون الوقوف عند سلبيات ثقافة الشعور بالذنب لأن هذا هو المجتمع الذي يهمنا كعرب وليس لأن النموذج الآخر هو نموذج مثالي وقد تعمدت أثناء شرح الفروق بين النمطين إعطاء أمثلة متطرفة منفرة للقارئ كزنى المحارم لبيان الفروق, لذا مسألة تبجيل النموذج الغربي غير حاضرة.

لابد وأن مسألة الرقابة المجتمعية لها إيجابياتها إلا أن هذه الرقابة تتسع لتشمل مناحي حياتية عديدة فتصير اليد الطولى لأي تصرف, فتتحكم الأعراف والتقاليد في كل تفصيل مهما بلغت بساطته.
إن للأسرة سلطة عظمى على الفرد بحيث تتدخل في توجيه حياة الفرد, فالوالدان يحددان مسار الطفل كما يفعل الوالدان لطفلهما بالمجتمع الغربي إلا أن هذا التوجيه لدى الأسرة العربية جد صارم ولا يسمح للطفل بإبداء رأيه فهامش الحرية جد ضيق وأحيانا معدوم, كما ويستمر حتى بعد بلوغ الطفل سن الشباب فيتم توجيهه للتخصص المراد دراسته مثلا بالجامعة وبالعمل ومقره ومن إمكانية العمل من عدمها بالنسبة للفتاة, والزواج ومكان الإقامة وإنجاب الأطفال وعدد الأطفال المراد إنجابهم, إذ قد يسعى الفرد بمجتمع العار للانجاب من أجل المجتمع وليس لرغبته الخاصة في الانجاب, قد يشعر الفرد المصاب بالعقم بالعار لأنه لم يتمكن من إرضاء المجتمع, وكذا الزواج بالنسبة للفتيات التي تعد مسألة حياة أو موت لأنها نابعة من الشعور بالعار كونها تقدمت بالسن ولم تتمكن من الزواج بعد.

بمجتمعاتنا العيب هو الدينامو المحرك لسلوكاتنا, فعند ارتكاب الخطأ فإن الفرد يسعى لأن لا يعلم أحد بخطئه لكي لا يُشعره أحد بالعار وقد تكون ردة فعله عنيفة إن تم افتضاح أمره فيستخدم آلية من آليات الدفاع النفسي كمبرر لفعله كي لا يتعرض للشعور بالعار من طرف المجتمع فمثلا متعاطي المخدرات قد يبرر ذلك للمجتمع بأصدقاء السوء, أو أن الجميع بمحيطه يتعاطون أو أنه أمر عادي يفعله الجميع وبالتالي فهو مجرد فرد من بين هؤلاء المتعاطين الكثر والشعور بالعار في هذه الحالة سيتزوع على الجميع وتصير وطأته مخففة على المتعاطي, في حين أن متعاطي المخدرات بمجتمع الشعور بالذنب مثلا سيشعر بالذنب كونه يتعاطى المخدرات لأن لا أحد بالمجتمع سيهتم لأمره كونه تعاطى أم لم يتعاطى فحتى أسرته لا تتدخل بالتقريع بل بالمساندة وأحيانا لا تسانده, فيبقى وحده يواجه ذاته وتصرفاته يقيمها بنفسه, عكس المتعاطي بمجتمع العار.

الرقابة الذاتية بمجتمعات العار جد ضعيفة لأن المجتمع حول أي تصرف خاطئ لمفهوم العيب, ومفهوم العيب يكون دائما مرتبطا بالآخرين, فأنت إن فعلت تصرفا عيبا فالمقصود هنا عيب فعله مجتمعيا وليس عيب فعله بينك وبين نفسك, وهذا أدى لضعف الرقابة الذاتية على الأفعال.
يجب تربية الأبناء ليس عن طريق تلقينهم ثقافة العيب, بل عن طريق بيان الخطئ من الصواب وشرحه وتفسيره للطفل لتدريبه على ممارسة الرقابة الذاتية لا ربط التصرف بالآخر وجعل الخطأ يبدو من الهين ارتكابه في غيابهم.
يتم ترديد عبارات للطفل من قبيل: عيب! لا تفعل هذا أمام جدك, عيب! لا تقل مثل هذا الكلام أمام الغرباء.
ولد هذا الأسلوب في الترهيب من المجتمع خوفا منه أكبر من الخوف من الله, وصرنا نرى تدينا ظاهريا, فنرى محجبات يرتدينه للمجتمع وينزعنه في الأماكن التي ليس بها رقابة مجتمعاتهن, الأمر ذاته في مظاهر التدين الظاهري بالنسبة للشباب الذين قد يبيحون لأنفسهم ممارسة الكبائر معتبرينها من الأمور الطبيعية ومستعظمين فعلها من طرف أخواتهم, وكأن لسان الحال يقول: أنا سأذهب للجحيم ولكنني أرغب في أن تدخل أختي الجنة.
المسألة في واقع الأمر عند هؤلاء الأفراد ليست على هذا النحو ولكنها مجرد نتائج وخلاصات ترسيخ ثقافة العيب.

تعليقات

  1. كان يقول الدكتور مصطفى محمود رحمه الله: نحن مجتمع يعرف العيب لا الحرام، ويخاف من كلام الناس ولا يستحي من الله.

    شكرا لك لأنك تقول الكلام الذي يعتمل في صدري ولا أنطق به.

    ردحذف
    الردود
    1. رحمة الله على الدكتور مصطفى محمود
      العفو أستاذ معاذ

      حذف
  2. كلام صحيح
    بالرغم أنني أعيش في مجتمع ثقافة العار والعيب، إلا أنني أشعر بالذنب والندم ولا أشعر بالعار والعيب، ربما لأنني ليس لي صلات قوية أو وصالة مع المجتمع والناس، لأنني لا أبه ولا أهتم لهذا المجتمع التافه السخيف الاستبدادي، وربما لانني لا أختلط جداً بالمجتمع ولا اكترث له ولا أهتم، ولا أهتم لكلامهم، وأنا منسلخ عنه.

    على كلاً أعتقد أن ثقافة الذنب أفضل من العار، فالفرد هناك لديه ضمير يحركه ويشعر بالذنب نتيجة لفعله ولديه عقل وقلب يفكر به ويفكر بهذا الفعل وهل يراه معقولاً أم لا، أفضل من أن يضع المجتمع أخلاقيات وقوانين.

    تذكرت شخص ما كوميدي عراقي تكلم عن ثقافة العيب في المجتمع، وضرب أمثلة عراقية، كونه عراقي ويتكلم عن المجتمع العراقي، في النهاية، قال أن هذه أشياء عادية، وسأل سؤالاً قال فيه، ما هو العيب؟ وما تعريف العيب؟ ماذا يعني أن هذا عيب؟ وأذكر مرة سألت مثل هذا سؤال لكن لم أجد جواب مقنع وفعلاً نحن لا ندري ما معنى عيب فقد كلمة سمعناها من أهالينا وأشياء توارثناها، فقال أنهُ برأيي أن العيب هو أن تفعل شيئاً يضر الأخرين لكن طالما لا يضر الأخرين فليس عيباً.

    لكن مثلما قلت الجواب الحقيقي الأن هو :"ومفهوم العيب يكون دائما مرتبطا بالآخرين, فأنت إن فعلت تصرفا عيبا فالمقصود هنا عيب فعله مجتمعيا وليس عيب فعله بينك وبين نفسك."

    ردحذف