كيف تصير حكيما

العنوان يشبه عناوين برامج الأطفال أعلم.
إن كنت غير مهتم بمطالعة الكتب أو أنك لا تبدل في سبيلها جهدا فهذا يعد اختيارك الشخصي وأنت حر في اختياراتك وفي حياتك التي لا يحق لأحد التدخل فيها وواجب على الآخرين احترامها, ولكن لنتفق منذ البداية أن الحكمة مرتبطة بمطالعة الكتب بانتظام وغير ذلك سيكون مجرد كلام منمق الغاية منه جذب أكبر عدد ممكن من القراء, لأن هذا سيشبه الحديث عن عالم رياضيات يكره الحساب.

ما هي الحكمة؟
جاء في المعجم الوسيط: الحِكْمَةُ العلَّةُ
أي أن تصير لك إمكانية التبصر والنظر لما وراء الحقائق المجردة والبحث عن علتها, ودعونا هنا نستعين بهرم الحكمة (DIKW) لتفسير مستويات معالجة المعلومة والذي يعد نموذجا تم تطويره ليستخدم في مجال علوم الحاسوب والاقتصاد...
وأنا هنا سأستخدمه لشرح فكرتي لعلي أوفق في ذلك.
ربما يذكرك هذا الهرم بهرم مراحل التعلم
يتكون هرم الحكمة من أربع مستويات كما بالصورة
- المعطيات Data: وهي المستوى الأول وتضم المعطيات الخام كما يستقبلها الشخص دون أي معالجة, كالمثال بالصورة لسائق سيارة صادف إشارة مرور حمراء, فالمعطى الخام أن هناك لونا أحمرا على عمود, وهو معطى سيستقبله أي إنسان أحضرته من القرون الوسطى لا يعلم شيئا عن إشارات المرور.
إذن نحن نستقبل معطيات عديدة في حياتنا ولا نتوقف عند الكثير منها بل نتجاوزها لمعطيات أخرى.
مثال: يتساقط التفاح من الشجر كل يوم.

- المعلومة Information: وهي المستوى الثاني والذي يطرح فيها سؤال ماذا؟ ما معنى هذا؟ وجميعنا نحمل مخزونا ضخما جدا من المعلومات, كالمثال بالصورة الذي أدرك فيه السائق أن العمود الذي به لون أحمر هو إشارة مرور تشير لقف...فإنسان القرون الوسطى سيطرح تساؤل ما هذا؟
وكمثال التفاح المتساقط يوميا والذي سقطت احداهن  فوق رأس نيوتن كما ادعى أو أمامه لا أدري, فجعلته يتساءل مامعنى أن يسقط التفاح للأرض ولا يصعد لأعلى؟ ومن تم وصارت لديه معلومة أن للأرض جاذبية.

- المعرفة Knowledge: وهنا صرنا في مستوى متقدم, وهي وضع المعلومة في سياقها الصحيح, المرحلة التي تحاول الإجابة عن سؤال كيف؟
وعودة لمثال تفاح نيوتن الذي ادعى أنها وقعت فوق رأسه, فإن معلومة أن للأرض جاذبية جعلته يتساءل مجددا عن كيفية حدوث هذه الجاذبية فقام لاحقا بإيجاد قانون الجذب العام والذي ينص على أن هناك قوة تجاذب بين أي جسمين بالكون.

- الحكمة Wisdom: وهي أعلى مستوى وتهتم بالنظر خلف هذه الحقائق المجردة والبسيطة لمعرفة علتها والسؤال المطروح هنا هو لماذا؟
فنيوتن وتفاحه توقف في مرحلة المعرفة وعجز عن الإجابة عن سؤال لماذا تحدث الجاذبية؟ ولماذا تنجذب الكتل لبعضها البعض أصلا؟
هنا ظهر أينشتاين ونسبيته وفسر لنا لماذا تنجذب الأجسام لبعضها البعض وأن الجاذبية هي انحناءات تسببها الكتل.


تطبيق النموذج في حياتنا:
الأمثلة التي سقتها كانت للتبسيط والشرح فقط فلا تأخذها بشكل حرفي.
نحن في حياتنا إذن نمر بمراحل عدة من مجرد معطيات لمعلومات ومعارف ثم حكم, ربما لو طرحت سؤالا لماذا يسقط التفاح أرضا على مزارع لم يلج المدرسة فإن إجابته لك ستكون على الأرجح: لأنه يسقط على الأرض! أي أن إجابته في هذه الحالة مجرد معطيات ولكنك لو سألته عن سبب كساد الزرع فإنه سيجيبك بمعارف أنت ربما لا تملك عنها إلا معطيات أو معلومات.
إذن لكل منا معلومات ومعارف هي بالنسبة للآخرين مجرد معطيات.
وهدفنا هو التوسيع من دائرة المعارف المكتسبة التي قد تجعلك  تنتقل من مرحلة الاطلاع والبحث لمرحلة الانتاج (الحكمة)
وهنا سأتحدث عن ما أراه من وجهة نظري يحقق هذه الغاية.

مطالعة الكتب:
لبلوغ هذه الغاية كما أخبرتك بالمقدمة فالأمر مرتبط بقراءة الكتب بشكل محوري, لايمكننا الحديث عن مثقف غزير المعارف لا يقرأ الكتب, قراءة الكتب ضرورة وليست ترفا.
وإن كنت قارئا فعليك أن تكون قارئا جيدا يتذوق الكتب وهنا بعض النصائح:
- لا تقرأ الكتب الفارغة: هناك كتب خالية من أي محتوى ومؤلفون مزورون يملكون بعض المال فيقررون طباعة أي كلام على نفقتهم الخاصة, ويحق لأي كائن أي يطبع ما يشاء ويخرج بأي منتج وهذا حقه, ولكنك كقارئ جيد عليك أن لا تنساق خلف هذه الأنواع من الكتب, فهي فارغة تماما وخالية من أي محتوى قيمي ولن تضيف لك أي إضافة سوى تبذير وضياع للمال والوقت وربما تمدك بأفكار خاطئة ومغالطات تعيدك خطوات للوراء.

- لا تقتصر على الروايات فقط: يقتصر العديد من القراء حول العالم على قراءة الروايات, وأنا لا أقلل من شأنها فعلى العكس تماما أنت مطالب بالاطلاع عليها وعلى الأقل أشهرها, ولكن الاقتصار فقط على قراءة الروايات لن يجعل منك مثقفا.

- لا تقتصر على مجال واحد: هناك من يقتصر على مجال واحد فقط ككتب العلوم البيلوجية أو الفلسفة فقط أو علم النفس فقط أو الدينية فقط, وهذا خطأ كبير لأنه في واقع الأمر لن يجعلك تعرف الكثير عن ذلك المجال, فالشخص الذي يقرأ مئات الكتب الفلسفية لن يجعله هذا فيلسوفا بل بالعكس قد يحمل مغالطات هو لا يدركها.
العلوم بمختلف مشاربها مرتبطة بعضها البعض ومكملة لبعضها البعض, قد تقرأ فكرة فلسفية ما وتبدو لك جد مقنعة ولكن العلم في مجال آخر قد أتبث عدم صحتها وأنت لا تدري لأنك لم تطلع عليه, قد تكون فقيها وذو باع في العلوم الشرعية ولكنك تقول كلاما خاطئا في مجالات لم تطلع عليها, وربما جميعنا رأينا تسجيلات لبعض الشيوخ الذين يتحدثون في أمور طبية أو فزيائية بشكل مثير للسخرية وهذا يحز في النفس كثيرا صراحة, لأنهم يكرسون في الأذهان صورة نمطية سيئة عنهم ويفسحون المجال للانتقاص منهم.
وبين قوسين لماذا لا نرى عالما فقيها ودارسا للعلوم؟ إن كنت تود عزيزي القارئ السعي نحو العلوم الشرعية فيجب عليك أن تطلع على بقية العلوم لأنها ضرورة ملحة في عصرنا الحالي.
وما ينطبق على الشيوخ ينطبق على أعدائهم, وأذكر كيف أن أحد الملاحدة الملمين بنظريات علمية إلماما كبيرا قال لي بأن القرآن يحرم السعادة والمرح على البشر ولما سألته كيف ذلك أجابني: "ولا تمش في الأرض مرحا".
:)

- اقرأ كل شيء: اقرأ كل شيء مهما كان ولا تخف, لا تنصت لتحذيرات المحيطين بك وتسفيه البعض لهذا الكتاب أو ذاك, وأنا هنا أتحدث عن كتاب حقيقي لمؤلف حقيقي وليس لمؤلفات تويتر وفيسبوك.
نسمع كثيرا من يحذرنا من قراءة هذا الكتاب لأنه كتاب إلحاد, أو ذاك الكتاب لأنه كتاب كفر...اذهب يا عزيزي القارئ وافتحه واطلع عليه ولا تخف ولاتقلق فإن كنت مسلما حقا فكتاب لن يخرجك من الملة أما إن أخرجك من الملة فعلا فهذا لأنك لم تكن مؤمنا منذ البداية بل تتبع ما اتبع آباؤك الأولون.
وربما تستغرب من نصيحة كهذه ولكنك إن كنت قارئا نهما ومحبا للكتب ستدرك ما أقصده تماما, فنحن نعيش في عالم صار الاطلاع على كل شيء فيه ضرورة لتعرف وجهات نظر الآخرين, أنت لن تلحد من مجرد قراءة كتاب واحد صدقني.
النصيحة هنا أن تقرأ كل شيء بمعنى كتب الكفر والإيمان على حد سواء وبعدها في قادم الأيام ستتمكن من تلقاء نفسك من فلترة المعارف التي لديك وتدرك الغث من السمين...قد تطرق بعض التساؤلات ذهنك وتراودك بعض الشكوك وأنت تقرأ وهذا أمر أراه مطلوبا وايجابيا لأنك قد أعملت عقلك وسيصير إيمانك ليس ما ألفت عليه آباءك بل قناعة معقلنة نابعة عن ذاتك.
وهناك نماذج إسلامية عدة "غير عربية" نشأت في بيئة تكرس لثقافة الاطلاع على كل شيء, كالشيخ أحمد ديدات رحمه الله والذي كان قادرا على الارتجال أثناء نقاشاته الحامية لاطلاعه المكثف على كتب الأديان المختلفة وكتب الالحاد... في حين لا نرى مثل هذه النماذج بعالمنا العربي لأنهم يحذرون من الاطلاع على كتب الغير طول الوقت.
ولكن كيف يمكنك مناقشة شخص لا تعرف شيئا عن معتقداته؟

ما ينطبق على المؤمن ينطبق على الملحد الذي ينفر من كتب الدين ولا يقربها وهو بذلك فوت عليه معارف شتى كمثال الملحد الذي قال لي أن القرآن يقول لا تمرح, أو كؤلائك الذين يظهرون على شاشات التلفاز يهاجمون الإسلام بجهالة ويسوقون أدلة هي ليست من الدين في شيء لأنهم لا يفقهون شيئا في العلوم الشرعية لتجنبهم الدائم الاطلاع عليها.

تعلم الانجليزية: 
المصادر العلمية العربية ضعيفة, إن أنت تعلمت الانجليزية ستفتح أمامك آفاق شتى, على الأقل تعلم بالقدر الذي يجعلك قادرا على قراءة كتاب وفهم أغلبه, فالانجليزية لغة العلوم وأنت بعدم تعلمك الانجليزية قد فوتت على نفسك معارف شتى لأن أغلب العلماء من شتى بقاع العالم بمن فيهم العرب يؤلفون ويصدرون العلوم باللغة الانجليزية لأنها اللغة المتفق عليها عالميا.
وهذا واقع مفروض, عليك أن تتعامل معه ولو كانت العلوم بلغة أخرى فعليك أن تتعلم تلك اللغة..
لذا إن كنت لا تجيد الانجليزية ففكر جديا في تعلمها.

النتيجة:
أنت إن صرت غزير المطالعة ستصبح قادرا من تلقاء نفسك على فلترة المعارف وتنظيمها في ذهنك وسيرتفع وعيك وستلمس ذلك حقيقة, وستميز بشكل كبير بين المعلومات التي يمكن تقبلها مبدئيا وبين تلك التي لا تستند على رجل ولا ساق بما يشبه الحدس, لأن المعارف المخزنة في ذهنك ستقفز من تلقاء نفسها وستصنع الروابط للخروج بالاستنتاجات.
ستراكم المعارف وستفسر المعلومات المنفصلة بعضها البعض وستخلق بسهولة روابط فيما بينها بلاوعي منك.
ربما تنسى تماما الكتب التي قرأتها وتعيد قراءتها وكأنك تقرؤها لأول مرة, ولكنه وفي واقع الأمر أنت قد راكمت المعارف وسينعكس ذلك في أسلوب تفكيرك وتحليلك وتناولك لشتى المواضيع.
يمكن لأي إنسان أن يقرأ معلومات هل تعلم منفصلة ويحفظها عن ظهر قلب ولكنه أبدا لن يتمكن من خلق روابط فيما بينها, عكسك وأنت تطلع على كتب من شتى المجالات بشكل مكثف.

ختاما:
أشكرك لأنك تمكنت من قراءة هذه التدوينة كاملة و أتمنى أن تكون مفيدة وغير مملة.
وإن كانت هناك أي ملاحظات فلا تتردد في طرحها.

تعليقات

  1. بالفعل لا نهضة لأمة بلا قراءة يتكرر مثل هذا الكلام كثيرا في مجتمعاتنا ولكن لا حياة لمن تنادي
    مقالة رائعة لم تكن مملة البتة😁 شكرا لك دائما

    ردحذف
  2. أنا ما اقرأ إلا الكتب اللي تعجبني وتدخلني جوها غيرها ما تهمني يعني عليا اقرا اي كتاب حولي

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بك حميد
      جميعنا نقرأ الكتب التي تعجبنا والمفهومة لنا.
      المقصود التنويع في المجالات التي تتطرق لها هذه الكتب

      حذف
  3. رائع جدًا، قد يكون هذا أفضل مقال كتبته حتى الساعة!

    ردحذف
    الردود
    1. حقا!!!
      ههههههههههه حسبته أكثر مقال ممل كتبته

      حذف
  4. رائع جداااا شكرا..مشكلةالمناضل انه جد جد متواضع واحيانا بزودها تواضع واا صل ارجوك

    ردحذف
  5. لو طبقنا هذا المثال على موضوع ام بي تي اي
    الناس اللي ماخدينه منهج محكم هم بالتأكيد ما قرأوا عن أصل الاختبار ولا الانتقادات اللي جاية منه، بينما اللي قرأ بيعرف الصح من الغلط بالتالي هو اللي يأخذ القرار حسب نظرته.

    أيضا الصور النمطية المنشورة بالإعلام وغيره تدل على ان المؤمن بها شخص لا يطلع على الأسباب وراءها وخفاياها أيضا.

    شخصيا رغم اني بنت، فوق تلات ارباع اللي اقرأه من كتب وغيره هي اشياء خارج الروايات، مو لأني بأصير مثقفة حقيقية (انا من دحين اقول انا مو مثقفة زي حركات اصحاب الصور النمطية ولا ابغى يكون اسمي مثقفة، ولو فكرت احاورهم حاندم لأنهم ما يعرفوا شي اصلا غير اللي متداول ومكرر)، اهم شي ابغى أدور على أجوبة لأسئلتي اللي بداخلي او اني اتعلَّم شي جديد، ممكن مرة اقرأ عن الدين، علم النفس، مركب كيميائي، نوع نادر من الحيوانات، اخر اخبار التكنولوجيا، لغات البرمجة، أمراض طبية، معلومات عن لعبة، السيرة الذاتية لشخصية خيالية بفيلم او غيره، ووو... اصلا ليش لازم اقول كل دا؟ ما اشوف له داعي اني اقول كدا المفترض الكل يقدر يسوي كدا، مدام كل واحد عنده جوال ومتصفح واحد على الاقل بجهازه يقدر يتعلم كل شي يبغاه، ان شاء الله حتى لو كنت ولد بس شوف ولو مرة وحدة فيديو ميك اب تتوريال، امزح مو شرط كدا لأني انا بنفسي ما اتابع ميك اب تتوريالز🤣

    شي تاني وهو رأي شخصي، انا اشوف كلمة حكيم كلمة مستهلكة، ولا سمعت احد قبل يصفني بدا الشي، لانه اصلا حتى الناس بنفسهم زارعين بعقولهم صور نمطية عن كيف انه المثقف المثالي او كيف شكل الحكيم، وانا نفسي شخصيا ما اصف نفسي بالحكيمة لأني ما اعتقد اني اصلا وصلت لمرحلة الحكمة.

    اذا بتسألني ليش فتحت المقالة، افتكرت الهرم اللي بالصورة هرم ماسلو ففكرت انه المقالة شرح عنها🙃

    ردحذف
  6. عندي رايي وهو عشان تنمي معارفك لا تقتصر بس على الكتب،
    حلو تنوع من مصادرك سواء مواقع الانترنت ولا مقاطع اليوتيوب ولا غيره، نعم الكتب مهمة وممكن اسميها ام قوالب المعلومات لانها قالب معروف منذ الازل لحفظ المعلومات، المشكلة غالبا هي التكاليف اللي تصرف عليها وصعوبة الحصول على معلومة معينة، بينما لو استخدمت الانترنت بتسهل عليك الكتير، الا انك اذا ما تعلمت تقرا بطريقة ناقدة بتضيع وسط المعلومات المغلوطة، هدا الشي ينطبق على كل شي، حتى لو فتحت كتاب منتشر جدا لكن عندك القدرة على القراءة الناقدة، بتعرف اذا الكتاب مجرد دعاية وكلام فاضي او شي بيفيدك فعلا.

    ردحذف
  7. شكراً.. مقال مفيد جداً ... سأحاول التنوع أكثر .. وشكراً للتأكيد أن ما قرأته ونسيته أمر طبيعي لقد عانيت كثيرا من هذا الأمر 💖🙂

    ردحذف
  8. فعلا تمر بالانسان مرحلة عمرية تجعله مشتت بين العديد من الكتب و المعلومات و الرغبات و لكن الوصول للحكمة صهب جدا لمن هو ليس متخصص في مجال معين ... والله اعلم
    شكرا على المقالات الرائعة

    ردحذف