الميثومانيا أو الكذب المرضي

الكذب سمة إنسانية طبيعية وفطرية ننميها بطفولتنا بمرحلة تطور شخصياتنا ومهاراتنا الاجتماعية, حيث يختلق الأطفال العديد من الأكاذيب لتجنب العقاب أو نيل الأهداف أو حتى دون سبب.

هل يبدو لك كلامي غريبا؟
لا أدافع هنا عن الكذب بل أفسره.
الكذب نوع من الخداع المتمثل بمد الآخر بمعلومات مغلوطة عن قصد, وهو سلوك تمارسه بعض أنواع الحيوانات أيضا التي قد تتظاهر بأنها ميتة أو أن تحفر حفرة متظاهرة أنها تخفي فيها طعامها في حين أنها تخفيه في مكان آخر لإبعاد المنافسين وغيرها من الأساليب التي تبقيها على قيد الحياة, ولأن الإنسان كائن كبقية الكائنات فهو يطور أيضا في طفولته مهارة الكذب للبقاء على قيد الحياة في المواقف التي تتطلب تغيير الحقائق للنجاة أو نيل الأهداف وللتفاعل السليم مع المجتمع.
قد يزعج الآباء لجوء طفلهم للكذب, وقد يعتبرون الأمر انتكاسة أخلاقية خصوصا إن أكثر الطفل من اختلاق الأكاذيب, لذا إن كان طفلك أو أحد أقاربك من الأطفال يكذب فاطمئن لأن حاله سيتغير مع مرور السنين, ما عليك إلا تبيان سوء صنيعه باللين.
ويمكنك مشاهدة هذا الفيديو الذي يمثل تجربة وضع فيها الأطفال لكبح رغباتهم وعدم لمس قطعة الحلوى, إلا أن ثلاثة أطفال من أصل أربع لجؤوا للكذب بخصوص عدم لمسهم للحلوى بشكل مقنع تماما للسائل, وقد بينت التجارب كيف أن أكثر من ثلثي الأطفال يكذبون لنيل أهدافهم أو هربا من التوبيخ.

الطفل ليس بريئا: 
يبعث الأطفال كل سنة عددا كبيرا من الآباء والأقرباء والغرباء للسجون ظلما بسبب إختلاق قصص اعتداء وسوء معاملة أو ادعاء مشاهدة جريمة لم تحدث حيث تعتد بعض القوانين حول العالم بشهادة الأطفال, يلجأ الأطفال للكذب للتخلص من سطوة آبائهم أو إخوانهم أو كنوع من العقاب لعدم تلبية رغباتهم, وقد يكذبون دون سبب حول حادث لم يشهدوه مطلقا.
لا تعتد بشهادة الأطفال في القوانين العربية إلا إن رافقتها الأدلة, فيفلت عدد كبير من المعتدين على الأطفال من العقاب للأسف.
هي مشكلة إذن تحتاج لمعالجة, كي لا يظلم أحد.
الكذب في المعتقدات الدينية: 
لا يطور البشر سمة الكذب بالطفولة عبثا, فهي كغيرها الكثير من السمات الضرورية التي تحتاج لتأطير.
بشكل عام فإن الكذب يعد بالإسلام وكما بغالبية الأديان إثما من الآثام, إلا أنه مباح في مواضع ثلاث, الحروب وإصلاح ذات البين والكذب بين الزوجين لتوطيد العلاقة بينهما من قبيل الغزل ونحوه, وكل ما دخل في نطاق هذه الحالات كإجازة بعض الفقهاء الكذب على المريض بخصوص حالته الصحية لرفع معنوياته (شخصيا لا أوافق هذا) أو الكذب على من يهدد حياة الشخص وممتلكاته وذلك للإفلات منه والنجاة... 
في معتقدات أخرى دعوة للتجنب المطلق للكذب مهما كان غرضه ساميا حتى لو تهددت حياة الإنسان, في حين لم تتطرق بعض المعتقدات الدينية للكذب مطلقا.
وفي أديان أخرى والتي عاش معتنقوها على مر العصور كأقليات وبسبب الاضطهاد الذي عانوا منه من طرف الأغلبية التي كانوا يعيشون في كنفها, عمد الكهان والأحبار على تطوير معتقداتهم على مر الزمن لتبيح الكذب بإطلاق على غير معتنقي نفس ديانتهم.

متى نكذب؟
بعيدا عن المثالية فإن أغلب البشر يكذبون لنيل أهداف بعيدة عن كونها حالات حرجة أو ذات نوايا حسنة, فحسب بعض الإحصاءات فإن الإنسان الطبيعي الغربي قد يكذب بمتوسط خمس كذبات باليوم (تزيد أو تقل) ولا أظن الأمر مختلفا عن الإنسان العربي إلا من رحم ربي.
الصورة مترجمة من مقال بمجلة ناشيونال جيوغرافيك تحتوي متوسط النسب المئوية لأنواع الكذب لدى الإنسان الطبيعي السوي.
وكما تعلم عزيزي القارئ فإن الإنسان الطبيعي السوي ليس مثاليا, وبالتأكيد فإن النسب تتغير من فرد لآخر حسب شخصيته والظروف التي يعيشها وخلفيته الثقافية.

الكذب كمرض:
الأن لننتقل لموضوعنا الأساس الكذب المرضي, والذي يقصد به الإفراط في الكذب بمعدل يفوق المتوسط ولأهداف غير واضحة, فكما نرى بالصورة فإن الإنسان السوي يكذب لأهداف واضحة ونادرا ما يكون كذبه بلا أي معنى مجهول الأسباب.
فالإنسان على أي حال يرتكب في حياته العديد من الآثام لأغراضه الشخصية.
بالنسبة للكذب المرضي فإن الشخص يكذب كذبا غير واضح الأسباب غالبا, أو بأهداف غير مقنعة لا يجد الإنسان السوي داعيا لها, وبشكل مزمن متكرر.

لا يصنف الكذب المرضي مرضا بحد ذاته بل عرضا مرافقا لبعض الاضطرابات النفسية كاضطرابات الشخصية: النرجسية, المضادة للمجتمع, الحدية, الدرامية...
- الشخصية المضادة للمجتمع: يعاني صاحب هذا الاضطراب من ضعف حاد في الشعور بالذنب والمسؤولية لذا يقدم على الكذب والخداع لنيل أهدافه أيا كانت أو طلبا للمتعة, فيتنوع كذب الشخص المضاد للمجتمع ليشمل كل مناحي حياته, لنيل المآرب ولأذية الآخرين وللمتعة ولغيرها الكثير...

- الشخصية النرجسية والدرامية: يشترك صاحب اضطراب الشخصية النرجسية مع اضطراب الشخصية الدرامية في كونهما يعشقان لفت الانتباه والتقدير, لذا يتمحور كذب هاتين الشخصيتن عادة في الأمور المرتبطة بتحسين صورة الذات كادعاء الحصول على شهادات عليا أو وظائف مرموقة أو عيش قصة حب عارمة, أو نيل جوائز ونحوه من الأكاذيب التي تعلي من شأن المضطرب....

- الشخصية الحدية: بسبب عدم وضوح الهوية وضبابية الأنا وعدم السيطرة على الاندفاعات فإن صاحب اضطراب الشخصية الحدية يلجأ للكذب بشكل اندفاعي دون أن يكون لكذبه أهداف واضحة.

- اضطرابات الجهاز العصبي: قد يفرط في الكذب بعض مرضى الصرع بسبب تأثر جهازهم العصبي, كذا من تعرضوا لإصابات بالدماغ أو عدوى بالجهاز العصبي.

- اضطرابات الجسدنة: بعض أنواع اضطرابات الجسدنة تتمحور أكاذيبهم حول صحتهم أو صحة مقربيهم فيدعون المرض للفت انتباه وشفقة الآخرين.

الميثومانيا أو الكذب المبهر:
في بعض الأحيان يرصد الكذب المرضي لدى أشخاص لا يعانون من أي اضطرابات نفسية, وهذا فتح باب الجدل بين العلماء في كون اعتبار الكذب المرضي اضطرابا نفسيا قائما بذاته وليس مجرد عرض مرافق لاضطرابات أخرى.
يكذب البعض بشكل اندفاعي ومستمر في أمور لا معنى لها, ويكون كذبهم عادة غرضه إبهار السامع...
وربما عزيزي القارئ سبق وصادفت شخصا كذلك, يروي عن نفسه قصصا عارية عن الصحة, فيكذب بخصوص كل شيء بحياته, ابتداء من تاريخ ميلاده ومكان ازدياده ليوهمك أنه أصغر سنا ومن أسرة مرموقة إنتهاء بتزوير شهاداته...ويروي أحداثا يدعي أنها حصلت له لم تحصل فعلا كنجاته من انفجار أو اعتراض عصابة سبيله, أو مشاهدته لوقائع لم تقع أو لم يكن شاهدا عليها...سيروي بالتفاصيل المملة عن العصابة المزعومة, سيدعي التقاءه بشخصيات لم يلتقي بها, أو علاقته الغرامية مع شخص لم يسبق أن تحدث إليه, وأنه نجى من حادث مميت وأنه بطل في رياضة لم يسبق أن زاولها وغيرها من الأكاذيب المبهرة التي يكون الغرض منها تحسين صورته وإبهار المستمع وإدهاشه بكذبه.

يتمتع من يعاني من الميثومانيا عادة بذكاء لغوي إذ يجيد التحدث والتواصل ورواية القصص المختلقة بكل ثقة ودون أن يرمش له جفن, وعادة ما يصدق الآخرون قصصه لأنه هو ذاته يصدق كذبه ويقتنع به وقد يبلغ به التصديق مبلغ الوهم, فيصعب إقناعه هو ذاته أنه يكذب, لذا لا يعرف العلماء ما إذا كان مصاب الميثومانيا مدركا حقيقة لكذبه أم لا, كونه قد يقدم على إبلاغ الشرطة على حادث وهمي حصل له ويضع نفسه في المشاكل القانونية وقد ينتهي به المطاف في السجن بسبب كذبه بخصوص معلوماته الشخصية وشهاداته الدراسية أو انتحال صفة.

لا يعرف سبب علمي يؤدي بالأفراد للكذب المبهر...وعادة ما يرصد الأهل بسن مبكر كذب ابنهم المستمر, ولكن لا يمكن الحكم على الطفل إلا بعد بلوغه سن الرشد.
يصعب ويكاد يستحيل علاج صاحب الميثومانيا للتخلص من كذبه لأنه نمط حياة متكامل بالنسبة له فهو غير قادر على العيش إلا في خضم الأوهام, ولكن هذا لا يمنع تحمله لمسؤولية كذبه ولا يبرر أبدا لجوءه للكذب خصوصا إن كان مؤذيا للغير كفتح عيادة طبية مثلا دون دراسة الطب أو اتهام الغير زورا بجرائم لم يرتكبوها.

تعليقات

  1. كنت أعرف شخصًا مثل هذا، كان أول شيء يخبرني به كذبة، وهو مشهور بين رفاقه بالكذب والكذب حتى يرتبك ولا يدري أين تبدأ أكاذيبه وأين تنتهي..

    على فكرة، مرحبا بعودتك

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بك معاذ لقد اختفيت أنت أيضا.


      حذف
  2. المقال ممتاز ورائع استمر يا مبددع🌹🍃

    ردحذف
  3. أتذكر بالإبتدائية كانوا يختلقون كذبات والمضحك بالموضوع أحياناً صديقة تخبرهم شيء ولكي يكرهون البقية بها يبالغون ويزيدون أيضا بما قالته ����‍♀️��على كل حال أودّ سؤالك أنا نوع تقريباً متوتر يعني لا أعرف أصف نفسي لكن أحياناً عندما أتكلم مع شخص علاقتي معه متوترة أو أحاول أن لا اقول شيء سيء عني عندما أتكلم معه * أتمنى أن تفهم * بإختصار لا أرتاح الحديث معه �� أغير صيغة الكلام الحقيقي مثلاً أختي أخبرتني كَذا وكَذا من التوتر أغير قليلاً ولكني أعرف أن كلامي خاطئ ! وأحياناً أقول اوه أتوقع أنها قالت كَذا مع إنني متأكدة اصلاً

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا بك
      طبعا أنت تعلمين أنك شخصية قلقة ومن الطبيعي أن يصدر منك هذه التصرفات بمحاولة التهرب من الإجابات المتعلقة بشخصك أو مقربيك لأنها سمة من سمات الشخصية القلقة.
      لا تلومي نفسك كثيرا حول الموضوع لأن المشكلة ليست في تغيير الكلام بل بما تعانين منه من توتر وقلق.

      حذف
  4. شكراً استاذ جواد انت شخص ملهم ولولا الله ثم مدونتك لما عرفت الكثير

    ردحذف