التفكير الرغبوي وتأثير الأمنيات في التفكير المنطقي

يدعي الجميع منا بأننا ننساق خلف ما يقوله المنطق والحقائق المجردة, فترى النقاشات الساخنة تحتدم بقوة بين حاملي مختلف الأفكار والكل يرفع شعار الموضوعية, في حين لو أمعنت النظر في هذه النقاشات ستتمكن من تحديد خلفيات ودوافع كل فرد يناقش الفكرة وستتمكن بكل سهولة من تحديد العديد من المعلومات الشخصية كالجنسية, الجنس, الديانة, التوجهه السياسي, النادي الرياضي الذي يشجعه إذا كان الموضوع رياضيا كرويا.
ففي نقاش عن من سينال لقب أفضل لاعب مثلا, ستدرك على الفور نادي كل شخص وجنسيته لأن تقييمه لا يكون على أساس موضوعي بل على أساس رغبته في أن يكون فلان أو علان أفضل لاعب لأنه ينتمي لناديه الذي يشجعه أو لبلده أو لديانته أو لتسريحة شعره...

ما هو التفكير الرغبوي؟
التفكير بالتمني هو بكل بساطة فكرة أن ما يرغب الناس في أن يكون صحيحا يؤثر على ما يعتقدون أنه صحيح, فيميلون لإظهار أمنياتهم ورغباتهم أثناء عرضهم ما يعتقدون أنه حقيقة حاصلة, وهذا تفكير نقع فيه جميعا من حين لآخر كبشر أثناء استشرافنا للأحداث المستقبلية أو المخفية, أي أنه نوع من أنواع التفاؤل اللاعقلاني.

يمكن اعتبار عدد كبير من أنواع الانحيازات والمغالطات تمثيلا أو نتيجة للتفكير الرغبوي كالتنافر المعرفي, والانحياز التأكيدي ووهم التفوق , والانحياز للمصالح الذاتية وهو انحياز يعزو فيه الشخص لأي أمر طيب يحصل له على أنه من اجتهاده ومن ذكائه وحسن تصرفه في حين أن كل ظرف سيء هو ناتج عن عوامل خارجية وليس نابعا من غبائه وسوء تقديره.
"فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ"
"أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ"
"وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ"

وقبل أن أقلب الموضوع لكتاب فقه وتفسير, فإن التفكير الرغبوي يتجلى بشكل جد واضح في توقعات الفرد المستقبلية حول نتائج المسائل الاقتصادية والسياسية, لذا سترى كيف أن المصطلح يستخدم بكثرة في هذه المواضيع.
لأن هذان المجالان بالنسبة للعامة من الناس غامضان ومفتوحان أمام كل التوقعات ويؤثران على معيشة الفرد بشكل مباشر, فحتى أثناء التحليل الموضوعي قد يقع الشخص فريسة الرغبة وهو ينسج توقعاته المستقبلية.

عندما يخطط شخص ما لمشروع اقتصادي صغيرا كان أم كبيرا فإنه يبالغ في توقع النجاح والأرباح, ويرى المحيطون به جليا كيف أن توقعاته مبالغ فيها, لأنها ناتجة من رغبته في النجاح والكسب وليس من الواقع.
قد يقوده التفكير الرغبوي للانحياز التأكيدي فتراه يبحث فقط عما يدعم وجهة نظره من دراسات ويؤكد صحة توقعاته في النجاح بعيدا عن بقية الدراسات التي تعدد المخاطر ونسب الفشل.
لتحليل ظاهرة التفكير الرغبوي قام أحد الاقتصاديين بجامعة اكسفورد بإجراء اختبار على مجموعة من المزارعين والخبازين.
حيث طلب باحث الاقتصاد من الخبازين والمزارعين توقع سعر القمح لهذه السنة, مقابل تقديم تحفيز مادي لمن يكون توقعه أقرب للسعر الحقيقي.
فكانت النتيجة أن توقعات المزارعين لسعر القمح أكثر ارتفاعا مقارنة مع توقعات الخبازين.

السبب يكمن في أن المزارعين يرغبون في أن يكون سعر القمح مرتفعا كي يكسبوا مالا أوفر من محصولهم من القمح, في حين يتمنى الخبازون أن ينخفض سعر القمح لهذه السنة لأن ثمن الخبز والحلويات التي يبيعونها تابث لا يتغير فلو انخفض سعر القمح سيكسبون الفارق.

أي حتى أثناء التوقع لسعر القمح وبوجود جائزة لصاحب التوقع الأقرب للحقيقة وقع المزارعون والخبازون تحت تأثير التفكير الرغبوي, وقد سأل صاحب التجربة هؤلاء المزارعين والخبازين في ما إذا كانوا مدركين لوقوعهم تحت تأثير الأمنيات وهم يحددون سعر القمح, فأجاب بعضهم بالإيجاب.

التفكير الرغبوي عقلاني أم لاعقلاني؟
 إن نحن نظرنا للتفكير الرغبوي ظاهرا فإنه سيبدو لنا سلوكا لا عقلانيا يمكن أن يؤدي لتوقعات تدفع الشخص للمخاطرة والتخطيط لمشاريع غير متوقعة النتائج, هو إذن كبقية المغالطات والتحيزات التي يقع بها المرء, إلا أن هذه التحيزات والمغالطات لم توجد بالطبيعة البشرية عبثا فلو نظرنا لعمق الظواهر والحكمة من وراء وجودها فإننا سندرك أن لكل تحيز وظيفة مهمة بحياتنا.

بمعنى لو افترضنا أنني أريد إنشاء معمل شكلاطة بنكهة ما وبدأت بالعمل على المشروع, فإنه ليس لدي المعلومات الكافية حول المستقبل وما ستصير إليه أسعار المواد الأولية, وما إذا كانت الدولة سترفع رسوم استيراد بعض المواد الضرورية للمشروع مستقبلا, وسلوك المستهلكين وما إذا كانت الشكلاطة ستعجبهم, وما إذا كان سيظهر منافسون جدد, وغيرها من المخاطر غير المتوقعة التي قد تؤدي بي للفشل والإفلاس, ومع ذلك سأبدأ بالتبجح حول النجاح الباهر الذي سيحققه المشروع, في واقع الأمر فإن المشروع الافتراضي قد ينجح وقد يفلس بنسب ما لا أعلمها.

يرى بعض العلماء أن التفكير الرغبوي استراتيجية عقلانية مقارنة بالمعلومات والموارد التي يتوفر عليها البشر, إذ يتطلب تحديد أفضل قرار في حالة معينة كما بمشروع معمل الشكلاطة الافتراضي النظر في جميع النتائج المحتملة وعواقبها طويلة المدى. وبالتأكيد فإن النظر في كل هذه الاحتمالات كما بالمثال والأخذ بها لأمر يستعصي على أغلب حاملي المشاريع لأن لا أحد يعلم المستقبل أو لنقل يصعب ويكاد يستحيل دراسة مستقبلية استشرافية لكل خطوة نخطوها, لذا قد يساعد التفكير الطموح المتفائل الرغبوي في التعويض عن حقيقة أننا لا نستطيع تقييم النتائج طويلة المدى بشكل كامل.
 ولإتباث أن التفكير الرغبوي استراتيجية عقلانية في المسائل مجهولة التوقعات, لجأ بعض العلماء لمراقبة سلوك مجموعة من الأشخاص بتفكير رغبوي حول مستقبلهم المهني, تبين أن التفكير الرغبوي أدى لتحسن الأداء لديهم, وقد استخدم لدراسة الاحتماليات العمليات الرياضية التصادفية (قرارات عملية ماركوف) التي وفر من خلالها عالم الرياضيات الروسي ماركوف إطارا رياضيا لنماذج صنع القرار التي يكون فيها جزء من النتائج عشوائيا غير معلوم وجزء آخر متحكم فيه.
(تستخدم قرارات عملية ماركوف في مجالات عدة كالطب والإدارة والاقتصاد...)

لتبسيط المسألة أكثر بعيدا عن سلاسل ماركوف لنفترض أن مائة فرد جميعهم خططوا لمشروع معمل شكلاطة, لنقسمهم لمجموعتين:
 1- خمسون فردا بتفكير رغبوي لاعقلاني حول توقع نجاحهم.
2- خمسون فردا بتفكير لارغبوي عقلاني يتوقعون الفشل بنسب تساوي نسب توقعهم للنجاح.
إن أصحاب التفكير الرغبوي سيلجؤون للمخاطرة والذهاب بعيدا في توسيع النشاط ونحوه, لأن الفشل غير حاضر نصب أعينهم, في حين أن عددا كبيرا من أصحاب التفكير اللارغبوي لن يخاطروا لأن احتمالات النجاح غير مضمونة.

النتيجة إذن ستكون في مجموعة العقلانيين سلبية لأنهم لن يوسعوا نشاطهم وقد يتراجع كثير منهم في المضي قدما بالمشروع لأن احتمالات النجاح غير معلومة, ولن يرغبوا في خسارة رأس مالهم, ويكون نسبة من أتمم المشروع ونجح منهم هي خمسة أشخاص فقط كمثال في حين فشل وأفلس عشرة أشخاص بينما تراجع البقية عن المخاطرة وباعوا الفكرة.
أما أصحاب التفكير الرغبوي فقد ركبوا المخاطر جميعا لأنهم جميعا يدفعهم التفاؤل والتفكير اللاعقلاني في توقعهم للنجاح وإغفال الفشل, فيفشل عدد كبير منهم فعلا لنقل ثلاثين شخصا مثلا نالوا الإفلاس والتقريع من أفراد أسرهم والسخرية من أصدقائهم الذين نعتوهم بالأغبياء والبلهاء, في حين نجح العشرون الباقون وهو عدد يفوق الناجحين ضمن مجموعة التفكير اللارغبوي.
أي بالنتيجة الاجمالية لو نظرنا لكلا المجموعتين ومن ناحية الصالح العام فإن التفكير الرغبوي مفيد للبشر عموما لأنه يدفع عددا كبيرا نحو النجاح.

إذن كخلاصة فإننا لو نظرنا من أعلى فإن التفكير الرغبوي مفيد للبشر يدفعهم للعمل وتوقع الأفضل لتستمر الحياة, ولكنه في ذات الوقت مدمر لعدد كبير من البشر أيضا.
كلنا نقع ضحية التفكير الرغبوي ويقودنا أحيانا للأفضل وأحيانا للأسوء, هل تذكر عزيزي القارئ بعض المواقف التي كنت تفكر فيها برغبوية سواء بخصوص الدراسة أو العمل أو الرياضة أو نحوه؟

تعليقات

  1. شكرا لك على هذه التدوينة، اتذكر انني كنت بصدد اخذ كورس متقدم منذ بضع سنين وجعلت أتخيل نفسي بعد نيل الشهادة وفرص العمل تنهمر علي. لكتني لم أجتز إختبار القبول!!!

    ردحذف
  2. المصادر لو سمحت اي مصدر اعتمدت

    ردحذف
  3. Wishful Thinking, Guy Mayraz, University of Oxford

    ردحذف
  4. هو نفس موقع المعلق فوق , اضحكني تعليقه لكنه وتقعي, هو نفسه الوضع عندما تنتظر وتقول فور تخرجي ستنهمر عي فرص الشغل وكدا لتعلم بعد ذلك انه ليس بتلك السهولة المتصورة...

    ردحذف
  5. لا أذكر موقف معين لكن اظن أن أياتي يغلب عليها التفكير الرغبوي المبالغ فيه وللأسف في الغالب تجاربي تبوء بالفشل

    ردحذف
  6. اريد عمل برنامج في خفض التفكير الرغبوي ممكن مساعدة ...

    ردحذف
  7. السلام عليكم... هل عملت برنامج في خفض التفكير الرغبوي لان كذلك اريد عمل نفس البرنامج

    ردحذف