ما الفرق بين الفطرة والغريزة؟ وما هي سلوكات الإنسان الفطرية؟

إذا أخبرتك أن صديقي تقوده الفطرة, فإن انطباعا إيجابيا سينتابك اتجاهه, بينما لو قال لك صديقي أنني إنسان تقوده غرائزه فإن ما ستفهمه من كلامه هو أنني شخص كريه...لكن بعيدا عن دلالات اللفظين في عامياتنا, تحدثت في الموضوع السابق عن مفهوم السلوك الغريزي, و شيوع رأي عالم النفس أبراهام ماسلو عن تخلص البشر من سلوكاتهم الغريزية لصالح العقل, وتميزهم عن بقية الكائنات بتجاوز مرحلة الانسياق وراء اتباع نشاط آلي موحد لا يدخل عليه تغيير أو تبديل, فقد تم تحديد أسس السلوك الغريزي من طرف البيولوجيين المتمثلة بالميل والرغبة الشديدة والفطرية للقيام بنشاط ما معقد, غير متعلم وغير قابل للتغيير إلى آخره من الخصائص... كبناء العنكبوت لعشه و النحل لخليته, أو هندسة القندس المائي لأنفاقه دون الحاجة لإعمال المنطق.

اقرأ عن  الفرق بين الغريزة والعاطفة والانعكاس.

ما هي الفطرة؟
حتى وإن لم تعد للبشر غرائز فإنهم في آخر المطاف لم يخرجوا عن خانة الطبيعة, إذ تخزن الجينات معلومات تؤطر الدماغ البشري بمجموعة من المدارك والمعارف التي لا يمكن له تجاوزها.

بعض مناصري الغريزة يقرون عدم وجود سلوك غريزي بشري حسب التعريف الايثولوجي الكلاسيكي (علم سلوك الحيوان), لكنهم يجادلون في كون غياب تأدية البشر لسلوك معقد منمط وموحد لا يعني عدم وجود غرائز بقدر ما يعني تطويع هذه الغرائز وممارستها بأشكال متنوعة...أي أن البشر مازالوا يولدون باستعدادات ودوافع فطرية لتأدية بعض الأنشطة ذات الأهداف الموحدة.
فطرة
الفطرة إذن هي سمات يولد بها الكائن واستعداد جيني على إثيان بعض السلوكات غير المتعلمة, فكل سلوك غريزي هو سلوك فطري ولكن العكس غير صحيح...اهتمام الأبوين بأبنائهما كباقي الثديات هو سلوك فطري, عكس السلاحف التي تبيض بالشاطئ ثم تنصرف في حال سبيلها, كما أن هذا الاهتمام الأبوي لا يرقى لنطلق عليه مسمى غريزة لأنه ليس سلسلة من السلوكات الآلية المعقدة التي يقوم بها كل كائن بشري دون تبديل إلى آخره... أظن أنني صدعت رأسك عزيزي القارئ بالتكرار.

لازال العلماء لحد الساعة يدرسون ويجادلون في تحديد السلوكات الفطرية عند البشر, إذ أن المهمة جد صعبة لامتزاجها بما نكتسبه من وسطنا البيئي, فبعض العامة ينسبون كثيرا من العادات والتقاليد الخاصة بمجتمعاتهم للفطرة وهذا لا يكون صحيحا بالمرة, لأن الأمر يتطلب دراسة سلوك الكائن البشري وهو صفحة بيضاء, وهذا ما يدفع العلماء لدراسة سلوك الأطفال الرضع.

- اكتساب اللغة: حسب عالم اللسانيات نعوم تشومسكي فإن الإنسان يولد باستعداد فطري لاكتساب اللغة, يناقش تشومسكي في نظريته أن جميع اللغات البشرية تتكون من نفس العناصر النحوية الأساسية وهي الاسم والفعل والصفة, كما أن اللغات حول العالم تتميز جميعا بخاصية الجملة التكرارية, أي إمكانية تضمين جمل داخل جمل إلى مالا نهاية.
يرى تشومسكي أنه رغم اختلاف قواعد النحو بين اللغات إلا أن البشر جميعا في آخر المطاف يتبعون قواعد نحوية رئيسية موحدة تعتبر هي الأساس والبذرة.
اكتساب اللغة فطرة
يجادل تشومسكي أيضا دفاعا عن نظريته بكون الأطفال يتعلمون اللغة الأم بدون أي مجهود يذكر ولا تلقين مباشر من الأهل, فحتى لو ترك الطفل وتم تجاهله تماما فإنه سيتعلم اللغة المتداولة في محيطه, مما يعزز فكرة أن للطفل فطرة داخلية لفهم كيف تعمل اللغة وتركيبات الجمل حتى وإن لم يكن له إدراك مباشر بمفرداتها.
بل تتوحد مراحل اكتساب الأطفال للغة حول العالم, فالطفل الرضيع يبدأ بتمييز الأصوات ويحاول إنتاج ما يشبهها, يتمكن بعد ذلك من نطق حروفا ممدودة (با, ما, فا...) لينطق بعدها الطفل كلماته المبسطة الأولى (ماما, بابا...) ثم يتعلم تركيب كلمتين لينمي جملته فتصير أكثر تعقيدا.... وهكذا فالطفل يتعلم قواعد لغته الأم التي يتحدثها أهل بيته في ظرف جد قياسي. (في حالات المجتمعات العربية المقصود هو اللهجات وليس العربية الفصحى لأننا لا نتحدث بها في حياتنا اليومية).
- سلوك القطيع: نحن نعيش كقطيع, وليس في هذا أي قدح أو ذم بل وصف ومقارنة مع بقية الكائنات, فالبشر يعيشون في تجمعات بشكل فطري, لسنا مثل الدببة ينزوي كل دب بالغ بعيدا عن الآخرين. عقلية القطيع هو سلوك يتميز بافتقار صنع القرار الفردي, وتبني القرار الذي تتخذه المجموعة المحيطة.
أقيمت عدة تجارب لدراسة عقلية القطيع لدى البشر, وستجد فيديوهات طريفة لا حصر لها لأناس يقلدون تصرفات لا معنى لها لمجرد أن الجميع من حولهم يفعلها, ولعل ما يدور بتطبيق (تيك توك) المثال الأفضل لتوصيف عقلية القطيع, حيث يستمتع المستخدمون بتقليد بعضهم البعض, بل تتعدى المسألة من مجرد تقليد إلى تغيير وقلب لحقائق واضحة بغية عدم مخالفة القطيع...
فباحدى التجارب الروسية تم إحضار مجموعة من الأطفال للتمثيل وطُلب منهم الكذب أمام طفل آخر موضوع التجربة بشأن لون هرمين.

وضعت المشرفة على الاختبار هرمين أبيضين وسألت الأطفال عن لونهما فأجاب الجميع أن لونه أبيض, ثم وضعت هرمين آخرين فوق الطاولة أحدهما أبيض والآخر أسود وسألت الأطفال مجددا الواحد تلو الآخر عن لونهما فأجاب كل الممثلين أن لونهما أبيض, فارتبك الطفل موضوع التجربة الذي لا يعلم شيئا وأجابها أن لون الهرمين أبيض أيضا.
أي أن الطفل غيّر حقيقة واضحة أمام عينيه وضوح الشمس لكي لا يشُذّ عن القطيع.
الأمر يتعدى المرهقين والأطفال للراشدين فعقلية القطيع هي المتحكم الأول بكل مناحي حياتنا من ملبس ومأكل وذوق فني وقيم ومبادئ ومعتقدات وخصوصا السوق والبورصات, إذ تنهار البورصات العالمية بين ليلة وضحاها بسبب تبنى الجميع سلوكا موحدا اتجاه السوق والأسهم.

- الإيثار ومساعدة الغير: لو كنت تسير بالشارع, ورأيت رجلا شيخا ضعيف البصر متجها نحو حفرة فإنك على الأرجح ستهرع لإبعاده عنها, أنت ستنتابك رغبة ملحة في مساعدته لأننا كائنات مجبولة على الإيثار ومساعدة بعضنا البعض وهذا مرتبط بحقيق كوننا نعيش كقطعان, وبطبيعة الحال فكما لعقلية القطيع سلبيات فلها إيجابيات, فالكائنات التي تعيش كقطعان دائما ما تساعد بعضها بعضا, عكس الكائنات التي تسلك نمط حياة فرداني.
أتبثت الدراسات والتجارب أن البشر يولدون باستعداد وقابلية على التعاون ومساعدة الغير دون مقابل, في واقع الأمر فإن التعاون ومساعدة الغير هو ما يبديه الطفل في أشهره الأولى وليس المنافسة والأنانية كما قد يعتقد البعض, إن طلبت من طفل رضيع مدك ببعض طعامه فإنه سيقاسمك بعضا منه حتى وإن كان يشعر بالجوع, أي أن التعاون فطرة بشرية يتم كبحها أو حتى قتلها لدى الطفل من وسطه البيئي, كالنظام الدراسي المتبع في عدد من الدول والذي يغذي في نفس الطفل روح التنافس السلبي والأنانية على حساب التعاون.
هذا الفيديو يبين تجربة مساعدة الآخرين من طرف الأطفال والشامبانزي, حيث أن الحيوانات الرئيسية من قردة عليا تظهر سلوك التعاون والمساعدة لأنها تعيش في قطعان أيضا.

- الدين والروحانيات: إذا عزلت مجموعة من الأطفال بجزيرة نائية وقدمت لهم حاجاتهم الفيسيولوجية دون أن تطلعهم على العالم, فإنهم بالأحرى سيطورون دينا فيما بينهم... لم يجد عدد كبير من العلماء من بد إلا في إرجاء ظاهرة الدين للفطرة البشرية, فقد عبد البشر على مر العصور مكونات الطبيعة, وقدسوا شخصيات حقيقية وأسطورية وفسروا بروحانية مختلف القضايا الكونية الوجودية.
في كتابه "الدين مفسرا" يقول عالم النفس التطوري باسكال بوير: "يمكن العثور على تفسير المعتقدات والممارسات الدينية في طريقة عمل جميع الأدمغة البشرية, وأنا أعني حقًا جميع الأدمغة البشرية، وليس أدمغة المتدينين أو بعضهم فقط."
عكس عدد من العلماء الدين يحاولون تحديد منطقة بالدماغ مسؤولة عن الروحانية "god spot", يجادل بوير في أن الدين ليس كيانا تابثا يمكننا أن نحدد تموقعه بأدمغتنا, وإنما هو نتاج أسلوب معالجة الدماغ البشري ككل للمعلومات, فحسب بوير يلعب الدين دورا محوريا في بقاء البشر, إذ أن الدماغ البشري على استعداد لتفسير كل شيء يجري ويدور حولنا, فإن سمعت صوتا غريبا قربك فأنت على الأرجح لن تتجاهله بل ستبحث عن ماهيته ومصدره, وقد تحاول تفسيره من خلال المعلومات المسبقة التي تملكها.
ومن هذا المنطلق فقد ناقش بوير عدة خصائص دينية مشتركة بين البشر كطقوس التطهير, إذ أن البشر لم يكونوا على إدراك بحقيقة وجود كائنات مجهرية قاتلة, ولكنهم مع ذلك مارسوا في عديد من الأديان طقوس التطهر والإبتعاد عن كل ما قد يسبب أذى رابطين المسألة بقوى شريرة لامرئية مؤذية, وقد أدت طقوس الطهارة والابتعاد عن كل ما هو أذى وظيفة جد محورية في بقاء البشر على قيد الحياة, حسب رأي بوير.
وكملاحظة هامشية فإن العلماء يدرسون مسألة الدين بعلمانية, والأمانة العلمية تتطلب مني أن أطرحها كما هي, وهذا لا يعني أنه رأي أتبناه شخصيا أو أن عليك عزيزي القارئ تبنيه.

- صنع الأدوات: في كتاب صدر قبل أسابيع ناقش عالم النفس فرانسوا أوسيوراك كيف أن صنع الأدوات غريزة وفطرة بشرية, إذ مارس البشر من بداية الوجود صنع أدوات الصيد المختلفة من الحجارة التي تطورت شيئا فشيئا لتكنولوجيات عصرنا الحالي.
استعان أوسيوراك بالنظريات الايثولوجية وخاصة نظريات كونراد لورينز عن الغريزة المبنية على الرغبة والتي تحدثت عنها بالموضوع السابق, حيث يعتبر أوسيوارك أن للإنسان رغبات خاصة لصناعة الأدوات, فحتى وإن لم تكن له حاجة فإنه سيقوم بعمل يدوي ليس من ورائه أي منفعة سوى إرضاء الرغبات الفطرية بصنع الأدوات.
ضرب أوسيوراك المثال بما يطلق عليه السلوك الغريزي الفارغ, وهو عندما يقوم الحيوان بسلوك غريزي لايحقق غايته المنشودة, فالقط إذ يقضي حاجته فإن غريزته تدفعه لدفن فضلاته بالأتربة, ولكن حتى وإن قضى القط حاجته على سطح أملس لا يحتوي على أتربة فإنه سيقوم بمحاكاة سلوك الدفن وهذا ما يسمى بالسلوك الغريزي الفارغ... وإن أسقطنا هذا المثال على البشر فإن للبشر رغبة فطرية لصنع الأدوات من أجل قضاء الحاجات, لكن حتى مع غياب الأهداف النفعية فإن الإنسان سيقوم بهذا السلوك الفارغ ويصنع أدوات يطلق عليها مسمى هواية أو فن.

كان هذا غيضا من فيض لبعض النظريات المتعلقة بفطرية بعض السلوكات البشرية, ويوجد نظريات عدة تحاول استكشاف إما جوانب وسلوكات بشرية أخرى أو تتناول نفس هذه السلوكات المطروحة لكن بوجهات نظر مغايرة.
فالخط الفاصل بين ما هو فطري ومكتسب لاوجود له لتعقيد التركيبة البشرية ولصعوبة دراسة أنفسنا بأنفسنا.

تعليقات

  1. أهلا بك شكرا لك على القراءة.

    ردحذف
  2. في النهاية الغريزة والفطرة ليست صفتان متعاكستان فالشخص لديه صفات غريزية وصفات فطرية

    ردحذف
    الردود
    1. أزال المؤلف هذا التعليق.

      حذف
  3. في انتظار أحد المقالات التافهة XD

    ردحذف
  4. حبذا لو تشرح لنا اسباب نشوء او تكون الغريزة !او ماهو التفسير العلمي للغريزة

    ردحذف