نظرية نمط الشخصية (أ و ب) وأمراض القلب

تكاثرت نظريات الشخصية كالفطريات وتشابهت علينا كالبقر وكلها تحاول دراسة جانب من جوانب شعور وتفكير وسلوك الإنسان, ومن بين هذه النظريات نظرية نمط الشخصية ألف وباء أو نمط الشخصية المتوترة والمسترخية.

يمكنك إجراء الاختبار من هنا.

لم تطور النظرية هذه المرة من طرف عالم نفس, بل عن طريق الصدفة على يد طبيبي أمراض قلب وأوعية, وقد بدأت القصة عندما افتتح الدكتوران ماير فريدمان وزميله راي روزينمان عيادتهما في منتصف القرن الماضي, واللذان كانا يستدعيان حِرفيا يعيد تنجيد الكراسي بقاعة الاستقبال كل حين, أخبرهما الحرفي أن هناك أمرا غير اعتيادي بمرضاهم عكس باقي العيادات, فهم يتحركون كثيرا فوق الكراسي ويجلسون على حافته مما يسرع عملية اقتلاع الجلد, كان يبدو أن المرضى يجلسون على حافة الكراسي وكأنهم يرغبون في الفرار من شدة عدم تحملهم للانتظار.

بعد ملاحظتهما للظاهرة مدة خمس سنوات, قرر الطبيبان أن يدرسا المسألة بعمق, لمعرفة ما إذا كانت لسمات شخصيات مرضاهم المتوترة علاقة بتطوير أمراض القلب والأوعية...فتلخصت الدراسة بأن أجرى الطبيبان استبيانا لسمات الشخصية لدى مجموعة من الرجال الأصحاء تتراوح أعمارهم ما بين 35 و59 سنة, ثم تتبعا معطياتهم الصحية على مدى ما يقارب العشر سنوات لمعرفة أي سمات الشخصية ترتبط بتطوير أمراض القلب والأوعية والتي قد تصيب بعضا من هؤلاء الرجال في هذه الفترة الزمنية.
فأطلقا على مجموع سمات الشخصية التي قد ترفع من نسب الإصابة بأمراض القلب بنمط الشخصية A والأشخاص الذين تغيب لديهم هذه السمات بنمط الشخصية B.

نمط الشخصية A:
يتمتع حاملوا سمات نمط الشخصية أ عموما - حسب الطبيبان - بالنشاط والعمل الدؤوب لإتمام الأعمال اليومية بالوقت المحدد, ما إن يباشر حامل النمط أ العمل فإنه لا يتوقف حتى ينتهي منه كليا مهما كان غير مهم وغير طارئ, يرافق هذا سرعة في أداء المهام بسبب مشاعر ضيق الوقت التي تحاصره, فيبدو وكأنه في صراع دائم مع الزمن.

أهم ما يميز حامل النمط أ هو الحساسية المفرطة اتجاه مضي الوقت, إذ يعيش وكأنه في عجلة من أمره في كل شؤون حياته, فيأكل بسرعة ويسير بسرعة ويعمل بسرعة ويلح على المحيطين به بالتصرف بسرعة مثله وإنجاز المهام بأسرع وقت ممكن, وترتفع حدة مشاعر الاستعجال ومرور الزمن عندما يتعلق الأمر بالحياة المهنية, فهو يقضي وقته في إنجاز أكبر عدد ممكن من المهام في آن واحد لربح الوقت, وبالتالي فإنه تتمحور العديد من سلوكات وسمات شخصية النمط أ حول عامل الزمن والحساسية اتجاه مروره.
 كعدم تحمل لحظات الانتظار, والتي تمثل بالنسبة للنمط أ جحيما تضفي عليه مشاعر التوتر والضيق والرغبة الملحة في ترك المكان والمضي قدما.
وكثيرا ما يحدد النمط أ لنفسه جدولا زمنيا جد حافل وضيق لإنجاز أكبر قدر ممكن من المهام, وسترافقه مشاعر الذنب وتأنيب الضمير إن هو لم يكمل عملا ما في الوقت الذي حدده لنفسه.

يمكن وصف نمط الشخصية أ على أنه إنسان مثالي عند إنجاز المهمات, فهو شديد الحرص على إتمام العمل على أكمل وجه... هي مشاعر التحدي التي تدفعه للاهتمام بأتفه التفاصيل, فهمها كان الهدف غير مهم سينجزه بدقة متناهية, وتتعدى التنافسية لدى النمط أ الحياة المهنية لتشمل مختلف جوانب حياته الأخرى, لكنها قد تبرز بشكل متطرف في الوسط المهني, حيث يعمل النمط أ ليس فقط من أجل إرضاء نفسه بل ليثير إعجاب الآخرين وليبهرهم بإنجازه.

العمل بدقة متناهية واهتمام وتحدي يرافقه شغف وحب للعمل وإنجاز المهام وتحقيق الأهداف, يجعل النمط أ مدمنا على العمل, فإن كان موظفا سيكون أول الملتحقين بمقر العمل وآخر المغادرين, كما وقد يعمل بالمنزل وبالعطل الأسبوعية, بالنسبة للنمط أ فإن العمل أهم من أي شيء آخر بالحياة, فمهما كان نوع العمل فإنه سينخرط فيه بكل ما أوتي من قدرات وطاقات وسيكرس نفسه كليا له, وأحيانا على حساب صحته وحياته الشخصية والأسرية, مما يجعل النمط أ من أكثر الشخصيات نجاحا وتحقيقا للأهداف بالحياة المهنية.
ورغم أن هذه السمات مرغوبة لدى كثير من الناس خصوصا أرباب الأعمال, الذين يجدون في النمط أ الموظف التنفيذي المثالي, إلا أن هذه السمات أحيانا لا تكون في معزل عن سمات أخرى جد سلبية لدى متطرفي النمط أ كالطباع الحادة والعدوانية نتيجة مشاعر التوتر اتجاه مرور الزمن أو عدم القدرة على إتمام الأعمال أو تحقيق الأهداف أو حتى لحظات الانتظار, فقد يخلقون مشاكل مع المحيطين بهم الذين لا يجارونهم في سباقهم مع الزمن, فإذا تطلب الأمر لدى النمط أ العمل ضمن مجموعة لا تهتم بالتفاصيل أو تؤجل الأعمال غير المهمة لوقت لاحق, فإن التوتر والمشاحنات ستكون سيدة الموقف, قد يخلق المشاكل بالمطعم لأن تقديم الطعام تأخر خمس دقائق, قد يتشاجر بعيادة الأسنان لأنه انتظر دوره ربع ساعة...

نمط الشخصية B:
يعتبر النمط ب إذن هو الشخص الذي تقل لديه أو لا يتوفر على سمات النمط أ, والمقصود هو بقية الخلق باختلاف سماتهم, فقد تركز عمل الطبيبان على استخراج نمط الشخصية المحفوفة بمخاطر أمراض القلب والأوعية.
وبالتالي فالنمط ب هو شخص لا يعاني من حساسية وتوتر واستعجال اتجاه مرور الزمن, ولا يحاول إنجاز أكبر عدد ممكن من الأعمال في آن واحد بشكل روتيني, كما أنه شخص مسترخ ويتحمل لحظات الانتظار بشكل طبيعي, وينجز المهام دون التدقيق المفرط في التفاصيل, ومشاعر التحدي لديه منخفضة, وليس مدمنا على العمل, كما أن الطباع الحادة والعدوانية لديه منخفضة أو معدومة.

النمط A وB بالمجتمع:
تعتبر سمات النمط أ على سلم متدرج, وبالتالي لا يمكن تقسيم البشر بشكل صارم إلى نمطين أ وب, وإنما يعتمد القياس على مدى حدية سمات النمط أ لدى الإنسان (القلق, العدوانية, الحساسية اتجاه مرور الزمن, التحدي, إدمان العمل...), وقد خلصت بعض الإحصاءات على أن نسبة المتطرفين في سمات النمط أ يتراوحون حول أقل من 10 بالمائة, في حين أن المتطرفين بالنمط ب الذين تغيب لديهم كليا سمات النمط أ ب 10 بالمائة من العينات التي تم دراسة سماتها.

ورغم أن الطبيبان قد أجريا دراستهما حصرا على عينة من الرجال بمنتصف العمر, إلا أن دراسات لاحقة ضمت شبابا ونساء أظهرت أن أعداد النساء المتطرفات في النمط أ يفوق عدد الرجال المتطرفين, بينما أعداد الرجال المتطرفين بالنمط ب يفوق أعداد النساء المتطرفات, ويرجح ذلك حسب تفسير البعض لطبيعة سلوك المرأة التي تنجز عدة أعمال في آن واحد أكثر من الرجل, وكذا إظهار المرأة لانفعالاتها العاطفية كالقلق والغضب أكثر من الرجل الذي يفضل كبت الانفعالات والتحكم بها.

النمط أ ليس نمط شخصية: 
رغم أنه تم تقديم نظرية الشخصية أ وب بداية على أنها نمط شخصية قبل عقود مضت. إلا أن النظريات الحديثة حددت تعريفا لسمات الشخصية التي من بين شروطها عدم ارتباطها بالوسط البيئي, كنظرية سمات الشخصية الخمس الكبرى.
لا رابط أيضا بين النمط أ وبقية نظريات الشخصية كMBTI إذ قد يحصل أي نمط بهذه النظرية على نقاط مرتفعة بسمات الشخصية أ, إلا أن أكثر نمط قد يحصل على نتيجة مرتفعة هو ESTJ لارتباط سمات النمط أ بشكل أكبر بالانبساطية E, والحزم والعجلة J, وسرعة الأداء وإنجاز عدة أعمال Te والارتباط بالحياة العملية Si.
لكن ليس كل ESTJ حامل للنمط أ وليس كل حامل لنمط أ ESTJ.

إذن ترتبط سمات نمط الشخصية أ بالوسط البيئي إذ أن شقا كبيرا منها مكتسب, وقد بينت بعض الاحصاءات كيف أن حاملي النمط أ يمثلون نسبة واحد بالمائة فقط بين طلاب السنة الأولى باحدى كليات الطب في حين أن نسبتهم ارتفعت إلى أكثر من عشرة بالمائة بالسنة الخامسة, بسبب التوتر الذي واجهه الطلاب طوال سنوات دراستهم.

النمط أ وأمراض القلب والأوعية:
يؤمن بعض العلماء أن أغلب الأزمات القلبية هي من نصيب النمط أ.
وقبل أن يتسرب إلى نفسك بعض القلق اتجاه صحتك أو صحة أحد أقاربك من النمط أ, في واقع الأمر فإن دراسة ماير فريدمان وزميله راي روزينمان تعرضت لانتقادات شديدة من الناحية الاحصائية من طرف علماء رياضيات ونفس وعلماء بمجالات الصحة, حيث لا توجد أي علاقة إحصائية حقيقة بين سمات النمط أ وتطوير أمراض القلب والأوعية, وقد تم استغلال دراسات النمط أ بشكل شنيع من لوبيات شركات التبغ بالسبعينات قصد الترويج كون أسباب أمراض القلب لها علاقة بالشخصية وليس النيكوتين.
في حين أن الواقع عكس ذلك تماما, وهو أن النمط أ عرضة لأمراض القلب بسبب توتره الذي يقوده للتدخين بشراهة, وقلة النوم والعمل حد الإرهاق وغيرها من السلوكات المضرة التي ترفع من نسب الإصابة بأمراض القلب.

العدوانية والغضب هي السمة التي وجد لها رابط إحصائي بينها وأمراض القلب والأوعية, إذ يبدو أن عددا كبيرا من مرضى فريدمان وزميله روزينمان بسمات عدوانية تترافق مع سمات النمط أ الأخرى, بينما احتمال إصابة حاملي سمات النمط أ غير العدوانيين بأمراض القلب والأوعية لا تختلف عن احتمالية النمط ب.
من جهة أخرى فإن أصحاب السلوكات العدوانية وسريعوا الغضب يميلون لحمل بقية سمات النمط أ الأخرى من قلق واستعجال وتحدي أكثر من غيرهم...

إدارة سلبيات سمات النمط أ:
لاشك في أن كثيرا من سمات النمط أ إيجابية ومرغوب فيها قصد النجاح بالحياة المهنية والعملية, إلا أنها أحيانا تترافق مع مشاعر التوتر والقلق المنهكة والغضب الجامح بسبب عدم تحقق الأهداف أو مشاعر الاستعجال ومرور الزمن, لذا يقع عدد من حاملي سمات النمط أ ضحايا عدة اضطرابات نفسية وجسدية, كالأوجاع الجسدية ذات الأصل النفسي والاكتئاب.

لذا الخطوة الأولى عزيزي القارئ - إن كنت تحمل هذه السمات - نحو التخلص من قيد السلبيات هو الوعي بحقيقة وجودها, وإدراك ما يميزك عن بقية المحيطين بك, وقد تحتاج لتقنيات استرخاء وكبح لجماح الغضب والتوتر, لذا سيكون من المستحسن أخذ بضع حصص مع مستشار نفسي للتحكم بمشاعر الغضب والقلق بالعلاج المعرفي السلوكي.

تعليقات

  1. جميل جدا.
    يعجبني شكل مدونتك الجديد. أتمنى لك التوفيق صديقي.

    ردحذف