نظرية الضغوط العامة بعلم الإجرام, كيف نتحول لمجرمين؟
تعد نظرية الضغوط العامة واحدة من بين أهم نظريات علم الإجرام التي تحاول تفسير أسباب السلوك الانحرافي لنيل الغايات بدل سلك الطرق المشروعة, وعكس نظريات إجرام أخرى تتطرق لتعلم السلوك الإجرامي من الوسط الاجتماعي, تركز نظرية الضغوط على التوتر الذي يتلقاه الإنسان بوسطه والذي يتحول لدافع ومحفز للسلوك المنحرف.
اللامعيارية:
كانت البداية مع رائد من رواد علم الاجتماع الحديث الفرنسي إميل دوركهايم (1858 - 1917) الذي ذكر لأول مرة مصطلح "Anomie اللامعيارية" ويقصد بها عدم الاستقرار الذي يحدث للمجتمع عندما تنهار معاييره وقيمه الثقافية. حسب دوركهايم فإنه خلال التغيرات السريعة بالمجتمع يحدث انهيار للقيم يترافق معها انتشار للجرائم والانحلال.
نظرية الضغوط:
استغل عالم الاجتماع الأمريكي روبرت كيه ميرتون (1910 - 2003) فكرة دوركهايم "اللامعيارية" لينسج نظريته حول الضغوط, فاقترح ميرتون أن هناك عنصرين مهمين في البنية الاجتماعية لأي مجتمع, العنصر الأول هو أن للمجتمع أهدافا ثقافية ذات وظائف واهتمامات, في حين أن العنصر الثاني من الهيكل الاجتماعي هي الأنظمة والقوانين المؤطرة لهذه الأهداف.
الأهداف الثقافية هي الأهداف التي يتفق عليها المجتمع والتي تكون نابعة من قيمه ومبادئه, فالمنتمي لهذا المجتمع يسعى لتحقيقها كي يتم تصنيفه كإنسان ذا قيمة بوسطه.
بمعنى أن مجتمعا كالمجتمع الأمريكي حسب ميرتون لا يرى أي قيمة للإنسان بلا مال ونجاح مهني, وعلى المرء أن يسعى لكسب المال وكلما كان حسابه البنكي سمينا كلما كانت قيمته بوسطه الاجتماعي أرفع شأنا, هذا إذن هدف ثقافي..إلا أن هذا المجتمع وضع أنظمة وقوانين تخص طرق الكسب المشروع للمال. فما يحدث أن الشباب الذين لا يستطيعون تحقيق الحلم الأمريكي وفق ما يتوقعه منهم مجتمعهم وحسب معاييره سيحدث لهم ضغط وتوتر وتناقض بين ما هو متوقع تحقيقه وبين واقعهم المعاش, مما يدفعهم لسلوك طريق الإجرام و الانحراف لتحقيق أهداف المجتمع الثقافية المتمثلة بالثروة المالية.
وقد اقترح ميرتون عدة أنماط يسلكها الإنسان للموازنة بين ضغط الأهداف الثقافية من جهة وضغط القوانين والأنظمة المؤطرة لهذه الأهداف من جهة أخرى.
- الانسجام: بهذا النمط يسلك الأفراد هدفا مجتمعيا بوسائل مشروعة, قد لا يحقق الفرد بالضرورة الأهداف الثقافية بمجتمعه ولكنها بالنسبة له تبقى هدفا وغاية يجب على الجميع طلب نيلها بالطرق النظامية. مثلا شاب بشهادة جامعية عاطل عن العمل, يبحث عن وظيفة, يجري مقابلات عمل, يوزع سيرته الذاتية على الشركات, يتقدم لإجراء امتحانات الوظائف المختلفة... وهكذا يقع أغلب البشر بهذه الخانة.
- الابتكار: يؤمن الفرد في هذا النمط بالهدف الثقافي للمجتمع تماما كما بنمط الانسجام ولكنه يسعى لهذا الهدف بوسائل غير مشروعة. كاللصوص والنصابين الذين يتقاسمون مع ذلك الشاب العاطل عن العمل نفس الهدف الثقافي المتمثل في الحصول على الثروة, لكنهم يسعون له عن طريق خرق القوانين والأنظمة التي خطها المجتمع.
- الطقوس: بمعنى ممارسوا الطقوس اليومية الروتينية, وهو نمط ينهجه الأفراد الذين لا رغبة لهم في تحقيق أهداف المجتمع الثقافية ولكنهم متمسكون باحترام القوانين والأنظمة. مثلا صاحب محل بقالة منسجم في عمله يمارسه كطقس يومي, يستيقظ صباحا ويفتح محل بقالته ويجلس اليوم كله يبيع ويعود لبيته بالمساء, لا رغبة له في توسيع نشاطه وتحقيق الثروة.
- التراجع: الأفراد الذين ينبذون كلا من أهداف المجتمع الثقافية والوسائل المشروعة لنيلها, يعيشون خارج أعراف ومعايير مجتمعهم وخارجون أيضا عن القوانين والأنظمة. مثلا مدمن مخدرات لا رغبة له في تحقيق أي ثروة ولا أي وظيفة ولا تكوين أسرة كل ما يرغبه هو أخذ المال من هنا وهناك للحصول على مخدراته, وطلب خدمات النساء المومسات.
- التمرد: نمط وضعه ميرتون خارج نظامه تماما لأنه يشكل أقصى درجات الانحراف عن المجتمع وقوانينه, فالمتمردون يشتركون مع المتراجعين في نبذ قيم وأعراف المجتمع وقوانينه وأنظمته ولكنهم عكس المتراجعين يسعون إلى استبدال الأهداف المجتمعية بأهدافهم الخاصة وصياغة وسائلهم وأنظمتهم الخاصة لتحقيقها. هذا الشكل من الانحراف يتمظهر في المنظمات الخارجة عن قوانين الدول وقيم مجتمعاتها حول العالم.
تعرضت نظرية ميرتون للانتقاد كونها تقتصر على تفسير الإجرام في ظل سلوك الشباب لتحقيق الأهداف المادية التي رسمها لهم المجتمع...في حين تتنوع أشكال الجرائم التي لا يمكن تفسيرها تحت ظل نظرية الضغوط, فرجل يهشم رأس جاره المزعج هو لم يرتكب فعله لتحقيق أي هدف مادي.
نظرية الضغوط العامة:
وجد روبرت أجنيو (1953) بروفيسور علم الاجتماع الأمريكي أن نظرية الضغوط وإن كانت قاصرة في تفسير كل جوانب السلوك الانحرافي إلا أنها تحمل بين طياتها رؤية مهمة للموضوع, فعمد على تطويرها وإضافة المزيد من المفاهيم لها, ليطلق عليها مسمى نظرية الضغوط العامة.
في حين تركز معظم نظريات الضغوط الأخرى مثل نظرية ميرتون على مسألة تراكم الثروة كهدف ثقافي بنيوي, تركز نظرية الضغوط العامة على مستوى الفرد و بيئته الاجتماعية المباشرة. يحدد أجنيو ثلاثة مصادر رئيسية للضغط وهي: منع أو عرقلة تحقيق الأهداف ذات القيمة الإيجابية, وإزالة المحفزات ذات القيمة الإيجابية, والتهديد أو التعرض للمحفزات ذات القيمة السلبية.
كما علمنا يولد الإنسان في مجتمع يحمل العديد من الأهداف الثقافية, فيتم التمييز بين ما يمكن اعتباره قيمة ايجابية على المرء تحقيقها والقيمة السلبية التي عليه تجنبها, يصف أجنيو أنماطا متعددة من الضغوط تندرج تحت فئة الفشل في تحقيق الأهداف ذات القيمة الإيجابية:
- ضغط بسبب حدوث تناقض بين التوقعات والمنجزات: يخط شاب لنفسه أهدافا يود تحقيقها كالنجاح بتفوق بدراساته العليا, الزواج من فتاة يحبها, الترقي بالعمل والعديد من الأهداف...وهكذا فإن حدوث تناقض بين ما يتوقعه وينتظر تحققه هذا الشاب وبين ما يحققه فعلا على أرض الواقع قد يخلق له ضغطا نفسيا.
- تناقض بين ما يعتبر عدلا وإنصافا الحصول عليه, والحصيلة المتحققة على أرض الواقع: للإنسان مشاعر جد قوية بالعدل والإنصاف, فأنت إن كنت واقفا وسط تجمع بشري لا تعرفهم ولا يعرفونك, ومر رجل يوزع على الجميع مئات الدولارات واحدا واحدا ثم استثناك وحدك فإنك ستشعر بالظلم وأن تصرف الرجل غير عادل, حتى وإن كان هذا الشخص غير مدين لك بشيء, ولا تعرفه والمال ماله يمكنه أن يوزعه على من يشاء...إن مشاعر العدل والإنصاف ذاتية ولا تخضع لمعايير وقد يفسرها الإنسان كما يحب ويشتهي, فأنت قد تشعر بالضغط النفسي من استثنائك من العطايا المادية العشوائية في حين أن شخصا غيرك قد لا يشعر بأنه تعرض للظلم مطلقا.
بالمجتمع قد يشعر الإنسان بالظلم من عدم تحقيقه العديد من المنجزات والأهداف الثقافية التي حققها غيره من أقرانه, فهو قد يرى أن كل أصحابه متزوجون وبمنزل مستقل وعمل بينما هو عاطل عن العمل يعيش بمنزل والديه, مما يشكل له ضغطا نفسيا ومشاعر بالظلم وعدم تحقق العدالة, فيخرج لممارسة النصب والاحتيال قصد تحقيق الأهداف التي يُفترض أن يحققها بمجتمعه.
2- الضغط الناتج عن فقدان المحفزات ذات القيمة الإيجابية:
يرى أجنيو أنه من خلال إزالة المحفزات ذات القيمة الإيجابية, فإنه من المحتمل أن يحدث ضغط. فذاك الشخص المتفوق بدراسته والذي يحصل دائما على أعلى الدرجات قد يشعر بضغط نفسي إن تم طرده من المدرسة بسبب مخالفة ارتكبها, إذ أن التفوق الدراسي كان حافزا له وذا قيمة إيجابية بحياته وقد تم الآن فقدانه وانتزاعه منه, فيلجأ للانتقام بإضرام النار بمكتب الإدارة.3- الضغط الناتج عن وجود محفزات سلبية:
يمكن أن يؤدي وجود المحفزات غير السارة إلى السلوك المنحرف, فالشخص الذي هشم رأس جاره بالمثال السابق هو إذ فعل ذلك بسبب إزعاج جاره له بشكل مستمر, هذا الشخص عانى من ضغط نتيجة وجود محفز سلبي متمثل بمضايقات جاره له.
علاقة الضغط بارتكاب الجرائم:
وفقا لأجنيو فإنه يمكن للضغط والتوتر أن يحدث في جميع طبقات المجتمع, فالتعرض للضغط ليس بظاهرة خاصة بطبقة اجتماعية معينة دون غيرها. يجادل أجنيو كيف يؤدي الضغط إلى أعمال إجرامية, فيفترض أن التوتر يؤدي بالإنسان إلى حالات عاطفية سلبية مثل الغضب أو الاكتئاب, مما ينتج سلوكا منحرفا في غياب مهارات التأقلم والقطع مع المشاعر السلبية.حسب أجنيو دائما فإن الأسباب التي تجعل البعض يتفاعل مع الضغط النفسي عن طريق الامتثال لقيم المجتمع ومعاييره في حين يلجأ البعض الآخر للسلوك الإجرامي هي نقص مهارات التأقلم كالذكاء, والإبداع, ومهارات حل النزاعات والمشكلات...إلى آخره من المهارات. والإضافة إلى افتقار هذه المهارات فإن لعوامل أخرى تأثيرا ودورا في نسبة حدوث السلوك الانحرافي كالبيئة الإجرامية التي قد ينشأ فيها الإنسان, كذا سمات الشخصية الإجرامية التي تلعب دورا أساسيا في سلك طرق منحرفة أثناء التعرض للضغط.
شكرا على المقال يا أخ جواد.
ردحذفو على ما أظن، هناك أيضا شعور الشخص بالعلوية و التفوق، فقد يضاعف هذا الشعور مستوى الجريمة، ليعتبر أنه(ا) أحق بإرتكاب كل ما يريده على الآخر، و بما في ذلك الجرائم.
أهلا بك أيها الريش الرمادي, وشكرا على القراءة.
حذفنعم هذا الصنف الذي ذكرته موجود أيضا وهم بالعادة ليسوا بأسوياء نفسيا.
لا تطول الغياب
ردحذف