وهم التفوق والتعالم: هل تعتقد أنك أفضل من الآخرين؟

أغلبية البشر يرون أنفسهم أفضل من أغلبية البشر.
في احدى الدراسات عبّر 90 بالمائة من السائقين أنهم يقودون السيارة أفضل من الآخرين وهذا مستحيل إحصائيا.
كيف يمكن للأغلبية أن تكون أفضل من الأغلبية؟

كلما زاد جهل الإنسان بموضوع ما كلما صار أكثر ثقة أنه يعرف أكثر من الآخرين عنه.
إن ذهبت لطبيب تشكو له مرضك قد يضع بعض الاحتمالات وقد يُوجّهك لمختص إن استعصى عليه تشخيص مرضك, في حين لو ذهبت لمعالج تقليدي لا يملك أي شهادة فإنه سيخبرك أن الأطباء لا يعلمون شيئا وأنه يعرف مرضك وقادر على شفائك وإبراء الأكمه والأبرص وربما إحياء الموتى أيضا.

يُدعى هذا بتأثير دانينغ-كروجر.
كما تلاحظ في المبيان فإن الجاهل جهلا مطبقا واثق مائة بالمائة من علمه, فتجد الرجل العاطل عن العمل بالمقهى يتحدث في السياسة كخبير استراتيجي عالم بما يدور ويُحاك في الخفاء من مؤامرات, وتجد ربة البيت قد تحوّلت لعالمة فزياء وهي على أتم الاستعداد لمناقشة حتى أينشتاين في قبره.

في حين كلما تعمّق الإنسان بالمجال كلما صار أقل ثقة بما لديه من علم لأنه يعلم مدى تعقّده وصعوبته وتشعبه وعندما يصير خبيرا بما فيه الكفاية ترتفع النسبة مجددا لكنها مع ذلك تبقى ثقته بما لديه من علم أقل بكثير من الجاهل الجهل المطبق.

هل أنت واقع تحت هذا التأثير عزيزي القارئ؟ هل إن سألتك عن نسبة ذكائك ستخبرني أنك أذكى من جل من تعرف؟
هذا راجع لسوء تقدير للآخرين وتقدير مبالغ فيه للذات لأن جلّ من تعرف يعتبرون أنفسهم أذكى منك إن سألتهم بدورهم, فالبشر يميلون لتبسيط الآخرين وتعقيد أنفسهم ويردد الجميع عبارات من قبيل:"أنا لست مثل الآخرين, طريقة تفكيري مختلفة" رغم أن لا أحد بمقدوره الاطلاع على طريقة تفكير الآخرين للمقارنة والخروج بهكذا استنتاج... أي أن أغلب من يقرأ الآن كلامي يحدّث نفسه قائلا: "نعم معك حق! الآخرون يقيّمون أنفسهم أعلى مما يستحقون, إنهم أغبياء حقا! ولكنني لست مثلهم أبدا, فأنا فعلا ذكي بشهادة الشاهدين".

يجب أن تستحضر هذه الحقيقة المُرة في ذهنك دائما, بمعنى قد لا تكون أذكى من الآخرين أبدا وقد يكون ذكاؤك في حدود المتوسط, وهذا لا يضرك طبعا كونك لست بنفس مستوى ذكاء ستيفن هوكينج, وبالمناسبة لا تثق بمواقع قياس الذكاء المجانية لأنها تخبرك دائما أنك عبقري كي يكسبوك زبونا لديهم.

اقرأ عن اختبارات الذكاء...

المشكلة تكمن في كون أن من هم واقعون تحت تأثير وهم التفوق لا يمكن إقناعهم بأنهم غير مهرة وغير مؤهلين بالشكل المطلوب لأنهم غير مدركين لحقيقة وقوعهم تحت هذا التأثير, فحتى لو أتبثت للشخص أنه لا يعرف شيئا عن الاقتصاد وبالتالي فهو غير مؤهل لمناقشة خبير اقتصادي, فإنه لن يقتنع.. وسيستمر في مجادلاته وسيحاول اقتراح الحلول للخروج بالبلد من الأزمة المالية لأنه غير مدرك لحقيقة كون الاقتصاد مجال جد موحل وصعب وأن النظريات الاقتصادية والدراسات تستغرق سنوات عدة لوضع الاستراتيجيات المناسبة من طرف فريق متكامل من الخبراء الذين شاب شعر رأسهم وهم يدرسون الاقتصاد.
إذن ما الحل؟
في حقيقة الأمر فإنه لا وجود لحل لأن بعض الدراسات المضادة المنتقدة لتأثير دانين-كروجر أتبثت أن الخبراء ذات أنفسهم يقعون تحت وهم التفوق, فحتى الطبيب في مثالنا السابق ليس أفضل حالا من ذاك المعالج التقليدي لأنك إن سألته أين تصنّف نفسك بين أطباء المنطقة؟ فإنه على الأرجح سيخبرك أنه مصنف بين النخبة, وإن سألت كل أطباء المنطقة فإن 90 بالمائة منهم سيخبروك أنهم أفضل من 50 بالمائة عن اقتناع.

ولكن مع ذلك لا داعي لليأس كل ما عليك عزيزي القارئ فعله هو استحضار هذه الحقيقة في ذهنك.
بمعنى؟
سأضرب لك مثالا حقيقيا عندنا تم اتخاذ إجراء استبدال قنينات الغاز الحديدية بأخرى بلاستيكية, وقد ثارت ثائرة البعض واحتجوا على أن البلاستيك سيذوب.
المطلوب منك عزيزي القارئ أن لا تفكّر بنفس هذا الأسلوب بل دراسة الموضوع, والاطلاع على خصائص هذه القنينات, والمادة البلاستيكية المصنوعة منها وكذا رأي الخبراء فيها من مؤيدين ومنتقدين, وبالتالي عدم الانجرار والانحصار بالمعارف البدائية التي تخبرك أن كل البلاستيك يذوب بالحرارة, أي يجب الإحاطة الشاملة بالموضوع.

المراحل الأربعة للتعلم:
قد يذكّرك هذا الهرم بهرم ماسلو للاحتياجات, يحاول هذا النموذج محاكاة هرم ماسلو شكلا إلا أن موضوعه يتمحور حول العملية التعلمية.

حسب هذا النموذج فإن الشخص الذي يحاول تعلم شيء ما فإنه قد يمر بأربعة مراحل:

1- لاوعي بعدم الكفاءة: في هذه المرحلة الأولية فإن الشخص لا يعلم أنه لا يعلم, إذ أنه غير محيط أبدا بالمجال الذي هو بصدد دراسته, وأن هناك العديد من الأمور التي لا يعرفها ويحتاج تعلّمها, ولو ضربنا مثالا بشخص قرّر تعلم الموسيقى والتحق بمعهد لأول مرة فهو حينها لم يكن يعلم أن النظريات الموسيقية بحاجة للرياضيات ولتشغيل المنطق.

2- الوعي بعدم الكفاءة: أعلم أنني لا أعلم, وفي هذه المرحلة يبدأ الشخص باكتشاف المجال الذي يود تعلمه وأنه لا يعلم الكثير بخصوصه وأن الطريق أمامه طويل, وفي هذه المرحلة أيضا يتخلى عدد كبير عن العملية التعلمية ويشعرون باليأس, فالشخص الذي لم يفهم النظريات الموسيقية سيتخلى عن المعهد وفكرة تعلم الموسيقى, أو ذاك الشخص الذي كان يودّ تعلم تصميم المواقع لما اكتشف الكم الهائل من المهارات التي يجب عليه إتقانها باع الفكرة.

3- وعي بالكفاءة: وفي هذه المرحلة المتقدمة يصير المتعلم يعرف كيف ينجز ما تعلمه, - بعد أن يتخلى عدد كبير من المتعلمين بالمرحلة السابقة-, إلا أنها تبقى مرحلة غير حاسمة, فالشخص الذي تعلم الموسيقى مثلا فإنه سيعزف بشكل واع وهو يحاول عدم ارتكاب الأخطاء, والمصمم أيضا يحاول إنجاز تصميمه بوعي ومراجعة وحذر.

4- لاوعي بالكفاءة: وهي المرحلة الأخيرة والتي فيها يصير الفرد غير مدرك لمهارته لأنها تتحول لجزء لا يتجزء منه, بحيث يبدأ الشخص بتصميم موقع بشكل مبهر وعندما يخبره من حوله أنه ينجز العمل بشكل رائع فإنه قد يسأل: حقا؟
والعازف الموسيقي الذي يعزف مقطوعة بشكل خلاب ويصفق له الآخرون قد يفرح كثيرا ولا يتوقع كل هذا التفاعل منهم

إذن عزيزي القارئ أنت ولابد في مراحل مختلفة من هذا النموذج في مجالات عدة, فإن كنت مثلا موظفا في مجال ما فربما أنت في المرحلة الرابعة تنجز عملك الروتيني ولا تفكر أبدا في كم أنت بارع وأنت تعمل, وإن قرّرت تعلم مهارة جديدة لأول مرة كالصيد مثلا فأنت في المرحلة الأولى وإن كنت تحاول اكتساب لغة جديدة فربما وجدت صعوبات معها فأنت في المرحلة الثانية, وإن كنت قد تعلمت لغة برمجة ما مثلا وصرت قادرا على خلق برنامجك الأول فأنت ربما بالمرحلة الثالثة وهكذا...

لا تحصر نفسك في المرحلة الأولى, فتعتقد أنك تعرف أكثر من الآخرين في مجال أنت لم تطلع عليه بالمرة أو قرأت عنه هنا وهناك.
حذار من تأثير دانينغ-كروجر! 

تعليقات

  1. مقال رائع.
    بانتظار من يظن أن نمط شخصيته يجعله أذكى من الجميع.

    ردحذف
    الردود
    1. أهلا أستاذ معاذ
      الكل عبقري بغض النظر عن تلك النظرية التي صارت تفسر كل شيء.
      أنا وأنت فقط الأغبياء هنا هههه

      حذف
  2. لقد أعجبني المقال
    شكرًا لك
    بانتظار القادم

    ردحذف
  3. مقال مميز جدا ، هناك خطأ بسيط في نقطة 4 نهاية المقال.. أعدت تكرار عنوان رقم 1.
    شكرا جزيلا و في انتظار جديدك دوما

    ردحذف
    الردود
    1. شكرا لك على التصحيح روان :)

      حذف
  4. شكرا على هذا المقال المميز

    ردحذف
  5. اعجبني المقال شكرا علئ هذه المعلومات

    ردحذف
  6. شكرا اخي العزيز المقال رائع ومعلومات جدا مفيدة

    ردحذف
  7. شكرأ للمقالة يعطيك العافية 👏

    ردحذف
  8. ما شاء الله عليك اخي جميل 🌸

    ردحذف