أنماط الانطوائيين

لازال علماء النفس يبحثون في أغوار النفس البشرية وسلوكها ومزاجها ويحاول كل عالم إضافة تفاصيل ونسج نظريات حول الشخصية الإنسانية, وتحظى سمة الانطوائية والاجتماعية بدراسات عديدة كونها مازالت عصية عن الفهم والإحاطة الشاملة لمختلف جوانبها.

كان أول من فصل في هاتين السمتين هو عالم النفس التحليلي كارل يونغ والذي كان انطوائيا هو ذات نفسه, إلا أن تعريفه للانطوائية والاجتماعية كان نابعا من ذاته ومشاعره الشخصية ولم يكن قد صاغ نظريته بتجرد بعيدا عن ذاته, إذ ليس كل انطوائي كما وصف وليس كل اجتماعي أيضا كما وصف, لعل الصفات التي ساقها كانت تنطبق على شخصه هو فعممها على الجميع.
أتى بعد ذلك عدة علماء نفس للشخصية ومن بينهم عالم النفس آيزنك الذي أعطى تعريفا مختلفا عن تعريف يونغ ولكن تعريفه ظل يتطرق لجانب واحد من جوانب السمة الانطوائية والاجتماعية.

اقرأ عن نظرية يونغ للانبساطي والانطوائي

اقرأ عن تعريف آيزنك للانبساطي والانطوائي

سأحاول اليوم عرض نموذج وتصنيف حديث للانطوائية غير شهير ولا يحظى باهتمام بالغ ولكنه يبقى مفيدا.

الصورة النمطية للانطوائي:
لاحظ جوناتان تشيك وهو بروفيسور أمريكي في علم النفس يدرّس حاليا باحدى جامعات أمريكا أن المفاهيم التي خصصها العلماء للانطوائية متعددة بشكل كبير وتختلف فيما بينها مما يجعل السمة يعتريها الغموض إذ لا وجود لتعريف حالي متفق عليه للانطوائية والاجتماعية, بالإضافة لكون تعريف الانطوائية بمختلف الأعمال والنظريات ومن بينها سمات الشخصية الخمس الكبرى تعريف مبني على مقارنة الانطوائية بالانبساطية, بمعنى أن العلماء جعلوا الانطواء هو مقابل للاجتماعية في مختلف نظرياتهم (انطوائي VS اجتماعي) وهذا ما يراه تشيك غير صحيح بالضرورة.
 بناء على هذا عمد تشيك على محاولة صياغة تعريف أكثر دقة للانطوائية وذلك بدراسة السمة في معزل عن بقية السمات كخاصية إنسانية متفردة بعيدة عن كونها مجرد مقابل للاجتماعية, وتأتّي له ذلك عن طريق العودة لأعمال العلماء الذين سبقوه وأخذ مقاييسهم المختلفة والتي تحدد مختلف جوانب الشخصية (مقياس الاجتماعية, مقياس الخجل, مقياس الانفتاح بسمات الشخصية الخمس, مقياس الحساسية, مقياس النرجسية...وغيرها الكثير من المقاييس) وطرح أسئلة مختلف المقاييس على عينة ضخمة من المتطوعين قصد استخلاص العوامل والفوارق بين مختلف الانطوائيين. فخرج أخيرا تشيك في دراسته بأربعة أنماط للانطوائية.
1- الانطوائية الاجتماعية:
 هذا هو المفهوم الشائع بين البشر لمفهوم الانطوائية, وهو نمط من الانطوائيين لا يتفاعل مع عدد كبير من البشر فهو شخصية تفضل أن تكون دائرة معارفها ضيقة, وقد يفضل أصحاب الانطوائية الاجتماعية الشديدة الوحدة بدلا عن التفاعل مع الآخرين.
يمكن القول أن صاحب الشخصية ذات الانطوائية الاجتماعية هو فعلا مقابل لصاحب الشخصية الاجتماعية.
يحبذون قضاء وقت مع أنفسهم بالمنزل في أنشطتهم الشخصية كعالم الانترنت أو القراءة أو اللعب أو مشاهدة التلفاز أو أي نشاط يزاولونه بمفردهم في عزلة عن الآخرين ويجدون متعة في البقاء بمفردهم أكثر من أنهم يشاركون أنشطتهم الآخرين.
يفضل أصحاب الانطوائية الاجتماعية المعتدلة التفاعل مع مجموعة صغيرة من الأصدقاء والأقارب ويرحبون بحضور الحفلات التي لا تحتوي على عدد كبير من الغرباء, ولكنهم سرعان ما يشعرون بالإرهاق بعد كل حفلة ومناسبة اجتماعية.
انطوائيتهم ليست بسبب الخجل أو القلق أو كره للبشر ولكنه مجرد تفضيل للعزلة وإيجاد متعة وراحة بقضاء الوقت مع أقل عدد من المعارف.
يشعر بالغالب الانطوائيون اجتماعيا بأن الآخرين يسيئون فهمهم وينعتونهم بصفات لا تمثل واقعهم "كالخجل, الأنانية, العقد..." بسبب تكتمهم وعدم حديثهم عن ذواتهم, هم لا يتعمدون عدم الحديث عن أنفسهم ولكنهم لا يجدون ما يقولونه ولا يشعرون أن هناك ما يمكن قوله بهذا الخصوص, بل أحيانا يشعرون وكأن ذهنهم صار عبارة عن ورقة بيضاء إذا ما طلب منهم الحديث في موضوع ما يخصهم, وقد يبذلون مجهودا في تجميع الأفكار, هم لا يشعرون بالريبة من البشر أو القلق هم فقط يفضلون قضاء الوقت مع أنفسهم أكثر من الآخرين.

2- الانطوائية القلقة:
عكس الانطوائية الاجتماعية فإن هؤلاء الأفراد يلجؤون للانطواء بسبب القلق, هم يجدون صعوبة في التفاعل مع الآخرين بسبب وعيهم الذاتي الشديد, قد ينعتون أنفسهم على أنهم سيئون من ناحية المهارات الاجتماعية أو لا يجيدون الكلام أو التصرف أمام الآخرين أويعانون من الخجل من الغرباء, هم يشعرون بانزعاج مستمر من أنفسهم لذا يفضلون الانطواء والبقاء في عزلة وتجنب المناسبات أو اللقاءات الاجتماعية كي لا يتعرضوا لمشاعر القلق والخجل, إذا دخلوا قاعة مليئة بالبشر فقد تضايقهم الأعين المحذقة ويشعرون وكأنهم محط أنظار الجميع.
ورغم تفضيلهم للعزلة إلا أنها لا توفر لهم الراحة لأنهم يجترون أحداث اليوم في تفكير مستمر ومزعج, فيلومون أنفسهم على كلام قالوه ما كان يجب أن يُقال أو تصرف ماكان يجب أن يتصرفوه أو يفكرون في معاني وخلفيات كلام الآخرين الموجه لهم أو موقف محرج تعرضوا له, يصابون بالإرهاق الشديد من التفاعل حتى مع أصدقائهم المقربين, فلا يتصرفون على سجيتهم معهم وقد يتكلفون معهم أو يظهرون شخصية لا تمثل واقع شخصيتهم ولا يبوحون بأفكارهم ومشاعرهم لأصدقائهم لأن هذا يضايقهم بشدة, وكثيرا ما يصرحون أن أصدقاءهم والمحيطين بهم لا يعرفون شيئا عنهم, وعكس الانطوائي الاجتماعي الذي لا يقصد إخفاء حقيقته فإن الانطوائي القلق يسعى لإخفاء حقيقته لأن إظهارها محرج ومزعج ومقلق بالنسبة له, وقد يلوم نفسه ويندم لاحقا إن باح لصديق له بمكنوناته.

3- الانطوائية التفكيرية:
هي انطوائية يتمتع أصحابها بخيال واسع وتفكير مستمر في قضايا عديدة وكثيرا ما يضيعون وسط خضم أفكارهم المتزاحمة, يتمتعون بوعي بمشاعرهم ودواخلهم ويفكرون كثيرا في ما يدور بعوالمهم الداخلية, هم لا يعانون من القلق أمام الآخرين ولا ينفرون التجمعات الكبيرة كما بالانطوائية الاجتماعية أو الانطوائية القلقة, قد يكون للشخص دائرة واسعة من المعارف حتى, هم فقط يعيشون في عالمهم الخاص, فقد يظهرون أمام الآخرين بمظهر الانطوائي لأنهم مشغولون بالتفكير في أحلامهم والقضايا التي تشغل بالهم وربما مشاركتها الآخرين من حين لآخر, ولكنهم بشكل عام لا يجدون أي مشكل أو إرهاق في التفاعل مع الآخرين وقد يرحبون بحضور الحفلات من حين لآخر ولكنك سرعان ما تراهم شاردين منزوين في ركن بالحفل تائهين في أفكارهم.
إذا قرأ أحدهم كتابا أو شاهد فيلما مثيرا قد يتخيل نفسه مكان شخصيات القصة, قد يتخيل نفسه في المستقبل أحلام يقظة, ويحب تحليل ذاته ومشاعره, يميل هذا الشخص للانطواء والانزواء بذاته فقط للغوص في أحلام يقظته وعيش عالمه الخاص.

4- الانطوائية المقيدة:
وهو آخر نوع من الانطوائية عند تشيك وهم الأشخاص الانطوائيون ليس لأنهم يفضلون التفاعل مع مجموعة صغيرة بل قد يكونوا عكس ذلك يحبون قضاء الوقت وسط التجمعات الكبيرة من حين لآخر ولا يعانون من القلق كما أنهم لا يتيهون وسط أفكارهم هم بكل بساطة بطيئون في حركتهم وفي تفكيرهم وردات فعلهم.
هم يفكرون مليا قبل البدء بالحديث لإبداء آرائهم, يتحدثون بوتيرة بطيئة وتكون نبرة صوتهم بالعادة منخفضة, وحتى أثناء سيرهم تكون خطواتهم بطيئة وقد يستغرقون مدة طويلة للقيام بعمل واحد, مما يجعلهم يقعون في خانة الانطوائية بسبب هذا البطء.
إذا استيقظوا مكثوا في أسرتهم مدة قبل أن يتحركوا, قد يجلس الواحد منهم مدة طويلة قبل أن ينهض وكأنه يشحن نفسه بالطاقة, لا يندفعون أبدا للقيام بأمر ما وليد اللحظة بل تجدهم يفكرون مليا في ما يجب عمله, طاقتهم منخفضة ويتمتعون بالاسترخاء ويميلون لحب الاسترخاء وعدم شغل أنفسهم أو إرهاقها بالعمل غير الضروري.

ماذا عنك؟
قد تكون عزيزي القارئ قد وجدت أن لديك شيئا من كل نمط وهذا صحيح فحتى لو كنت اجتماعيا قد تجد أن بعضا من الصفات تنطبق عليك سواء المتعلقة بالقلق أو البطء أو التفكير ولكنها تبقى بنسب ضئيلة مقارنة مع الانطوائيين.
أنت كشخص انطوائي قد تتوفر على نسب من كل نمط بتفاوت فمثلا هذا نموذج لفرد بانطواء قلق غالب وانطوائية اجتماعية غالبة أيضا.
 قام تشيك رفقة تلميذاته بتطوير مقياس خاص (اختبار) بالانطوائية لمساعدة الفرد على معرفة نوع الانطواء الأكثر هيمنة في شخصيته وقد ترجمته ولكن حدث خطأ وضاع مني بعد جهد ووقت ضائع فكسلت إعادة كتابته مجددا, وعلى كل حال فهو اختبار غير دقيق.

اقرأ عن قصة الثعلب والعنب الحامض


مقارنة نموذج تشيك ببقية نماذج نظريات الشخصية:
لابد وأنك لاحظت تشابها بين نموذج تشيك ونماذج للشخصية أخرى كنموذج يونغ وآيزنك وغيرهما, وهذا صحيح لأن تشيك لم يأتي صراحة بالجديد بل عمد على مدنا بخلاصة مختلف النظريات بعد تجميعها لدراسة سمة الانطوائية, حيث أن لكل عالم تعريفه الخاص بالانطوائية وقد حاول تشيك وتلميذاته التفصيل في أجزاء كل تعريف ومن تم استخلاص أربعة أنماط للانطوائية.

تعليقات

  1. من كان يعتقد أن الإنطواء واسع لهذا الحد؟ شكرا لك عزيزي جواد!

    ردحذف
  2. اعتقد أنني أميل للانطوائية الاجتماعية مع القليل من الانطوائية المقيدة

    شكرًا على المقال

    ردحذف
  3. انا احس بأنني انطوائي اجتماعي لكن لما تركت تعليقا على مدونتك....فقط لأشكرك على جميع ما تقدمه

    ردحذف
  4. فعلا كلما قرأت عن نوع احسست انني هو حتى قلت بأنه يمكن ان يكون الشخص خليطا من كل نوع

    ردحذف
  5. غير معرف9/14/2018 12:14:00 ص

    قديش عمرك جواد أنا عمري ٢٥ و أنا من شخصية esfj

    ردحذف
  6. اوه اذن انا انطوائية اجتماعية معتدلة مع بعض الانطواء الفكري

    شكرااااا المقال جدا مفيد

    ردحذف